رياض طباره
عندما توفيت المطربة صباح هبّ الشعب اللبناني للاشتراك في جنازتها وانطلقت مسيرات الرقص والغناء في الشوارع لأنها، كما قال البطريرك الراعي، «تركت خلفها رسالة الفرح». كما نعتها كل وسائل الاعلام المحلية والدولية بما في ذلك محطات التلفزيون العالمية أمثال الــ سي إن إن والجزيرة والــ بي بي سي (التي اعطتها لقب «ديفا ــ أي بريمادونا ــ الموسيقى») وغيرها معلنة أن الفرح رافق صباح الى مثواها الاخير. غير ان صباح التي «ملأت لبنان ومصر والعالم العربي غناءً وبهجةً وإطلالات فنية، مسرحية وسينمائية، قضت أعوامها الاخيرة نزيلة فندق بعد أن اضطرت إلى بيع منزلها وأملاكها». يتساءَل المرء أين كانت هذه الحشود عندما كانت صباح وحيدة في غرفتها؟
ولكن صباح ليست لوحدها بين مشاهير الغناء أو الفنانين العرب الذين أمضوا السنين الاخيرة من حياتهم فقراء ووحيدين. الكل يذكر ليلى مراد المطربة الكبيرة والنجمة السينمائية التي مثلت الى جانب عمالقة السينما المصرية أمثال محمد عبد الوهاب ويوسف وهبي وأنور وجدي وغيرهم خلال العقود المحيطة بمنتصف القرن الماضي. ليلى مراد تعرضت آخر حياتها لشائعات تتعلق بأصولها اليهودية، ثبت عدم صدقيتها، ولكنها برغم ذلك أمضت سنواتها الاخيرة فقيرة ووحيدة ومعزولة حتى وفاتها سنة 1995. وبعد ثلاث سنوات بدأ تكريمها ابتداءً بمنحها شهادة تقدير في مهرجان القاهرة السينمائي الى إنتاج مسلسل عن حياتها سنة 2009. وهناك الكثير من كبار الفنانين العرب الذين ماتوا فقراء، منهم فريد الاطرش الذي كان يسكن في آخر حياته في بيت مستأجر «ورصيده في البنك لا يتعدى الجنيهات القليلة». وكذلك عملاقا السينما المصرية يوسف وهبي وأمينة رزق اللذين امضيا سنواتهما الاخيرة على معاش تقاعدي يبلغ 32 جنيهاً في الشهر. أضف اليهم اسماعيل ياسين الذي أضحك الملايين بأفلامه والذي توفي مفلساً فقيراً تاركاً لابنه ديوناً مالية كبيرة. ورفيق ياسين في أفلامه، «الشاويش عطيه» رياض القصبجي، الذي لم يترك وراءه ما يكفي لمراسم دفنه ما اضطر بعض أصدقائه للمساعدة، وعبد السلام النابلسي ومريم فخرالدين وغيرهم وغيرهم.
وفاة كبار الفنانين مفلسين هو ليس طبعاً حكراً على العرب. فهناك الكثير من الفنانين الاميركيين مثلاً الذين عاشوا حياة في غاية النجاح والبحبوحة ولكنهم ماتوا في حالة من الفقر والوحدة. أذكر هنا فقط بعض الذين أعجبت بهم شخصياً في الماضي أمثال جودي غارلند الممثلة والمغنية والراقصة التي رقصت مع فْريد أستير الذي وصفها بانها «اعظم فنانة في العالم». هذه الفنانة الكبيرة التي عملت بنجاح في الفن لأكثر من 40 سنة، ماتت حزينة مدمنة على الخمرة والمخدرات وفي فقر كبير ولم تكن قد تجاوزت بعد الـ47 عاماً من العمر. ومن منّا، نحن الذين كنا في سن المراهقة في خمسينيات القرن الماضي، لم يكن ولو لمدة وجيزة عاشقاً للمثلة هيدي لامار الملقبة «أجمل فتاة في أوروبا» أقلّه بعد ان شاهدها تمثل دور دليله في فيلم شمشون ودليله مع فيكتور ماتور. هذه المرأة التي حصلت على الملايين من أدوارها السينمائية في هوليوود «لم تترك لعائلتها سوى ألذكريات». وللذين أقلّ سناً أذكر المغني ذا الشهرة العالمية سامي دايفس جونيور الذي باع الملايين من ألبوماته الموسيقية وغنى في أشهر الاماكن حول العالم مات وعليه ديوناً كثيرة، بما في ذلك ديون للدولة الاميركية، ولم يترك لعائلته أي شيء يذكر سواها.
قد يقول البعض إن هذا لربما هو قدر المغنين والممثلين لأسباب خاصة بهم ولكن الكثير من المبدعين الآخرين في مجالات الفن الأخرى وفي قرون أخرى ماتوا بالحالة نفسها. فإن غوغ الرسام الهولندي من القرن التاسع عشر والذي بيعت أحدى لوحاته سنة 1990 بــ 82.5 مليون دولار (ما يـعادل اليوم حوالي 150 مليون دولار) لم يبع خلال حياته سوى لوحة واحدة وكان يتكل على أخيه لمعيشته. هذا الرسـام الكبــير مـات فقـيراً لا يملك شيئا سوى رسـومه وكـــان يشتــكي من عدم قدرته على بيعها قائلاً: «إنني لا أستطيع أن أغيّر الحقيقة بأن رسومي لا تباع. ولكن سيأتي يوم سيدرك الناس فيه أنها تســاوي أكـثر من ثمن الدهان المستعمل فيها». أما زميله وصديقه الرسام الفرنسي تولوز لوتريك الذي خلد برسومه حياة المسرح في باريس، وخاصة الـ مولان روج، فهو الآخر مات يشكو من الكآبة، مدمنا على الشراب، بحالة فقر مدقع ومريضا بالسيفيليس.
أسباب خاصة
فرانز شوبرت الموسيقي الكلاسيكي الشهير مات شاباً في ثلاثينيات العمر كما فان غوغ، وكما هذا الاخير لم يجد تقديراً لأعماله خلال حياته حيث كانت أعمال بيتهوفن وباخ تطغى على كل ما حولها. حفلته الموسيقية الاولى والاخيرة كانت ناجحة سمحت له أخيراً أن يشتري بيانو خاصاً به. ولكن صحته كانت في تراجع سريع فمات بعد أقل من ثمانية أشهر قبل أن يستطيع أن يجني ثمار نجاحه.
هناك الكثير أيضاً من الكتّاب الكبار العالميين ماتوا فقراء أو مطمورين . إدغار ألن بو الكاتب والشاعر المعروف الذي بيعت الملايين من كتبه بعد وفاته حاول في حياته أن يعيش من أدبه ولم يفلح فمات فقيراً. أوسكار وايلد مؤلف قصة «صورة دوريان غراي» الشهيرة والعديد من القصص والتمثيليات المعروفة عاش سنين حياته الاخيرة في باريس يدور في طرقها وينفق القليل مما لديه من مال على الخمرة وكان يقول لأصدقائه إنه سيموت كما عاش بأكثر من قدرته (beyond his means) وهكذا كان.
هذا غيض من فيض، فالكثير الكثير من الكبار ماتوا فقراء وحيدين. فصباح هي واحدة من هؤلاء الكبار الذين أعطوا العالم سروراً وبهجة ولم يستطيعوا أن يكملوا الطريق الى آخرها ليموتوا بالوقار والجلال الذي يستحقون. لكل واحد منهم قصته الخاصة وأسبابه الخاصة. صباح انفقت الكثير من الثروة التي جمعتها على أقربائها وأصدقائها من دون حسيب أو رقيب. جودي غارلند كانت مزواجة تزوجت خمس مرات وطلقت أربع مرات وانتهت مدمنة على الخمرة والمخدرات. هيدي لامار هي الاخرى كانت مزواجة، تزوجت وطلقت ست مرات، كان كل طلاق يكلفها مبالغ كبيرة من المال. فان غوغ وشوبرت وإدغار ألن بو ماتوا فقراء لأن الناس لم تقدر قيمة اعمالهم خلال حياتهم. تولوز لوتريك ولد مريضاً بمرض في عظامه مما جعله قصيراً لا يتجاوز طوله متراً و 54 سنتمتراً ما قد يكون أحد أسباب كآبته، وكان يمضي الكثير من وقته مع المومسات فمات كئيباً ومريضاً بالسيفيليس. أوسكار وايلد مات فقيراً لأنه كان ينفق من دون حساب ويعيش بمستوى يتجاوز إمكاناته المادية.
لكل قصته. وليس بين هذه القصص قاسم مشترك سوى أن أصحابها هم من المشاهير. ولكن هناك أيضاً الملايين من غير المشاهير نجحوا في حياتهم وماتوا فقراء. منهم رجال أعمال ومفكرون وكتاب ومهنيون وأناس عاديون نجحوا في مرحلة من مراحل حياتهم وفشلوا في آخرها فلم تدم لهم النعم. فهذه ليست حالة خاصة بالمشاهير. قصص المشاهير نعرفها بسبب شهرة أصحابها وليس لأنها قصص غير عادية. إنها قصص روتينية تحدث كل يوم ملايين من المرات في جميع أنحاء العالم ولا نسمع بها لعدم شهرة أصحابها. ليس هناك قاسم مشترك بين كل هؤلاء الناس، أمشاهير كانوا أم من غير المشاهير، سوى لربما أن هذه هي سنّة الحياة.
ولكن صباح ليست لوحدها بين مشاهير الغناء أو الفنانين العرب الذين أمضوا السنين الاخيرة من حياتهم فقراء ووحيدين. الكل يذكر ليلى مراد المطربة الكبيرة والنجمة السينمائية التي مثلت الى جانب عمالقة السينما المصرية أمثال محمد عبد الوهاب ويوسف وهبي وأنور وجدي وغيرهم خلال العقود المحيطة بمنتصف القرن الماضي. ليلى مراد تعرضت آخر حياتها لشائعات تتعلق بأصولها اليهودية، ثبت عدم صدقيتها، ولكنها برغم ذلك أمضت سنواتها الاخيرة فقيرة ووحيدة ومعزولة حتى وفاتها سنة 1995. وبعد ثلاث سنوات بدأ تكريمها ابتداءً بمنحها شهادة تقدير في مهرجان القاهرة السينمائي الى إنتاج مسلسل عن حياتها سنة 2009. وهناك الكثير من كبار الفنانين العرب الذين ماتوا فقراء، منهم فريد الاطرش الذي كان يسكن في آخر حياته في بيت مستأجر «ورصيده في البنك لا يتعدى الجنيهات القليلة». وكذلك عملاقا السينما المصرية يوسف وهبي وأمينة رزق اللذين امضيا سنواتهما الاخيرة على معاش تقاعدي يبلغ 32 جنيهاً في الشهر. أضف اليهم اسماعيل ياسين الذي أضحك الملايين بأفلامه والذي توفي مفلساً فقيراً تاركاً لابنه ديوناً مالية كبيرة. ورفيق ياسين في أفلامه، «الشاويش عطيه» رياض القصبجي، الذي لم يترك وراءه ما يكفي لمراسم دفنه ما اضطر بعض أصدقائه للمساعدة، وعبد السلام النابلسي ومريم فخرالدين وغيرهم وغيرهم.
وفاة كبار الفنانين مفلسين هو ليس طبعاً حكراً على العرب. فهناك الكثير من الفنانين الاميركيين مثلاً الذين عاشوا حياة في غاية النجاح والبحبوحة ولكنهم ماتوا في حالة من الفقر والوحدة. أذكر هنا فقط بعض الذين أعجبت بهم شخصياً في الماضي أمثال جودي غارلند الممثلة والمغنية والراقصة التي رقصت مع فْريد أستير الذي وصفها بانها «اعظم فنانة في العالم». هذه الفنانة الكبيرة التي عملت بنجاح في الفن لأكثر من 40 سنة، ماتت حزينة مدمنة على الخمرة والمخدرات وفي فقر كبير ولم تكن قد تجاوزت بعد الـ47 عاماً من العمر. ومن منّا، نحن الذين كنا في سن المراهقة في خمسينيات القرن الماضي، لم يكن ولو لمدة وجيزة عاشقاً للمثلة هيدي لامار الملقبة «أجمل فتاة في أوروبا» أقلّه بعد ان شاهدها تمثل دور دليله في فيلم شمشون ودليله مع فيكتور ماتور. هذه المرأة التي حصلت على الملايين من أدوارها السينمائية في هوليوود «لم تترك لعائلتها سوى ألذكريات». وللذين أقلّ سناً أذكر المغني ذا الشهرة العالمية سامي دايفس جونيور الذي باع الملايين من ألبوماته الموسيقية وغنى في أشهر الاماكن حول العالم مات وعليه ديوناً كثيرة، بما في ذلك ديون للدولة الاميركية، ولم يترك لعائلته أي شيء يذكر سواها.
قد يقول البعض إن هذا لربما هو قدر المغنين والممثلين لأسباب خاصة بهم ولكن الكثير من المبدعين الآخرين في مجالات الفن الأخرى وفي قرون أخرى ماتوا بالحالة نفسها. فإن غوغ الرسام الهولندي من القرن التاسع عشر والذي بيعت أحدى لوحاته سنة 1990 بــ 82.5 مليون دولار (ما يـعادل اليوم حوالي 150 مليون دولار) لم يبع خلال حياته سوى لوحة واحدة وكان يتكل على أخيه لمعيشته. هذا الرسـام الكبــير مـات فقـيراً لا يملك شيئا سوى رسـومه وكـــان يشتــكي من عدم قدرته على بيعها قائلاً: «إنني لا أستطيع أن أغيّر الحقيقة بأن رسومي لا تباع. ولكن سيأتي يوم سيدرك الناس فيه أنها تســاوي أكـثر من ثمن الدهان المستعمل فيها». أما زميله وصديقه الرسام الفرنسي تولوز لوتريك الذي خلد برسومه حياة المسرح في باريس، وخاصة الـ مولان روج، فهو الآخر مات يشكو من الكآبة، مدمنا على الشراب، بحالة فقر مدقع ومريضا بالسيفيليس.
أسباب خاصة
فرانز شوبرت الموسيقي الكلاسيكي الشهير مات شاباً في ثلاثينيات العمر كما فان غوغ، وكما هذا الاخير لم يجد تقديراً لأعماله خلال حياته حيث كانت أعمال بيتهوفن وباخ تطغى على كل ما حولها. حفلته الموسيقية الاولى والاخيرة كانت ناجحة سمحت له أخيراً أن يشتري بيانو خاصاً به. ولكن صحته كانت في تراجع سريع فمات بعد أقل من ثمانية أشهر قبل أن يستطيع أن يجني ثمار نجاحه.
هناك الكثير أيضاً من الكتّاب الكبار العالميين ماتوا فقراء أو مطمورين . إدغار ألن بو الكاتب والشاعر المعروف الذي بيعت الملايين من كتبه بعد وفاته حاول في حياته أن يعيش من أدبه ولم يفلح فمات فقيراً. أوسكار وايلد مؤلف قصة «صورة دوريان غراي» الشهيرة والعديد من القصص والتمثيليات المعروفة عاش سنين حياته الاخيرة في باريس يدور في طرقها وينفق القليل مما لديه من مال على الخمرة وكان يقول لأصدقائه إنه سيموت كما عاش بأكثر من قدرته (beyond his means) وهكذا كان.
هذا غيض من فيض، فالكثير الكثير من الكبار ماتوا فقراء وحيدين. فصباح هي واحدة من هؤلاء الكبار الذين أعطوا العالم سروراً وبهجة ولم يستطيعوا أن يكملوا الطريق الى آخرها ليموتوا بالوقار والجلال الذي يستحقون. لكل واحد منهم قصته الخاصة وأسبابه الخاصة. صباح انفقت الكثير من الثروة التي جمعتها على أقربائها وأصدقائها من دون حسيب أو رقيب. جودي غارلند كانت مزواجة تزوجت خمس مرات وطلقت أربع مرات وانتهت مدمنة على الخمرة والمخدرات. هيدي لامار هي الاخرى كانت مزواجة، تزوجت وطلقت ست مرات، كان كل طلاق يكلفها مبالغ كبيرة من المال. فان غوغ وشوبرت وإدغار ألن بو ماتوا فقراء لأن الناس لم تقدر قيمة اعمالهم خلال حياتهم. تولوز لوتريك ولد مريضاً بمرض في عظامه مما جعله قصيراً لا يتجاوز طوله متراً و 54 سنتمتراً ما قد يكون أحد أسباب كآبته، وكان يمضي الكثير من وقته مع المومسات فمات كئيباً ومريضاً بالسيفيليس. أوسكار وايلد مات فقيراً لأنه كان ينفق من دون حساب ويعيش بمستوى يتجاوز إمكاناته المادية.
لكل قصته. وليس بين هذه القصص قاسم مشترك سوى أن أصحابها هم من المشاهير. ولكن هناك أيضاً الملايين من غير المشاهير نجحوا في حياتهم وماتوا فقراء. منهم رجال أعمال ومفكرون وكتاب ومهنيون وأناس عاديون نجحوا في مرحلة من مراحل حياتهم وفشلوا في آخرها فلم تدم لهم النعم. فهذه ليست حالة خاصة بالمشاهير. قصص المشاهير نعرفها بسبب شهرة أصحابها وليس لأنها قصص غير عادية. إنها قصص روتينية تحدث كل يوم ملايين من المرات في جميع أنحاء العالم ولا نسمع بها لعدم شهرة أصحابها. ليس هناك قاسم مشترك بين كل هؤلاء الناس، أمشاهير كانوا أم من غير المشاهير، سوى لربما أن هذه هي سنّة الحياة.
0 التعليقات :
إرسال تعليق