أربعة مفاهيم جوهرية تشكل أسس الليبرالية
يجمع هذا الكتاب بين السرد والعرض التاريخي لمنشأ وتطور مصطلح الليبرالية، الذي دخل إلى معجم التثقيف والسياسة والممارسة والشأن العام عبر قرون عديدة تعود إلى حضارة الرومان، حيث ارتبط في قاموس لغتهم اللاتينية بمعاني الحرية- والليبرالي المواطن الحر.
وما لبث مع مرور الزمن، وحتى إرهاصات العصر الحديث، في القرن التاسع عشر، أن تطوّر إلى مذهب سياسي يعزى إلى الثورة الفرنسية (1789)، وأيضاً إلى فكر اقتصادي يعود إلى طروحات آدم سميث الرأسمالية (1776).
ومن بعدهما تطورت مفاهيم وممارسات الليبرالية، كما يتابعها الكتاب، إلى ذروة ممارستها بعد انقضاء الحرب العالمية الثانية، حيث يرّكز الكتاب طروحاته وتحليلاته على أربع دول أوروبية، هي إنجلترا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة الأميركية.
وحيث كان طبيعياً أن تتباين الاجتهادات الفكرية، ومن ثم تختلف المنظورات والتطبيقات السياسية حسب الأنساق الثقافية المختلفة نوعياً في ما بين هذه الأقطار الغربية، وفي هذا الإطار، يتوقف الكتاب بالتحليل عند شخصيات كان لها إسهاماتها المختلفة في تعميق وتطوير التطبيق السياسي والاقتصادي لمذهب الليبرالية ما بين مفكرين.
مثل ستيورات مِلْ الإنجليزي إلى فردريك حايك النمساوي إلى ساسة ومسؤولين، مثل فرانكلين روزفلت في أميركا إلى براندت في ألمانيا، ومع كل هذه التباينات، يظل الفضل للكتاب راجعاً إلى تأكيده على أن الليبرالية ينبغي أن تظل مرادفة للحرية.
هي حروف ثلاثة كان الرومان الأقدمون يتعاملون معها بمنطق الإكبار والتقدير، الحروف هي اللام والباء والراء، وهي التي تؤلف لفظة «لبر» بمعنى المواطن الحر في إمبراطورية روما، التي عاشت وازدهرت قروناً عديدة قبل الميلاد.
ومن هذه المادة اللغوية، جاءت وازدهرت بدورها مادة «ليبرتاتس» في اللاتينية، ومنها اشتقوا مصطلحات وألفاظاً في لغات أوروبا الحديثة، وتدور في مجموعها حول لفظة «ليبرتيه» التي كانت النغمة الافتتاحية لثلاثية شعارات الثورة الفرنسية الكبرى (4 يوليو 1789)، وهي بداهة: الحرية والإخاء والمساواة.
هكذا ارتبطت كلمة «ليبرالي» أو كلمة «ليبرالية»، بمعنى الحرية عبر عقود توالت في العصر الحديث، إلى أن وصلت إلى وطن العرب في مصر وغيرها، لكي يستخدمها مفكر سياسي كبير في قامة أحمد لطفي السيد (1870- 1963) في كتاباته الرائدة المنشورة في صحيفة الجريدة، حيث ترجم الليبرالية على الوجه التالي: مذهب الحُريّين.
وكان طبيعياً أن يتطور تداول هذا المصطلح، وأن يخلص المثقفون العرب إلى التوسع في استخدام لفظة الليبرالية مرادفة لمفاهيم شتى، وإن كان يتصّدرها مفهوم التحرر والحرية السياسية والاقتصادية وما إلى ذلك بسبيل.
سيرة حياة فكرية
وبديهي أن هذه الرحلة الطويلة التي اجتازتها المصطلحات والألفاظ والعبارات الليبرالية، كانت محفوفة بتطورات في المفاهيم والأفكار المرتبطة بالمصطلح الليبرالي، وخاصة في إطار الثقافات الغرب- أوروبية، ناهيك عن انتقال الليبرالية لفظاً ومصطلحات ومفاهيم وتطبيقات إلى ميادين الثقافة السياسية ومسارات الفكر السياسي، فضلاً عن مجالات التطبيق في ربوع شتى من الوطن العربي مشرقاً ومغرباً على السواء.
من هنا، تأتي أهمية الكتاب الذي نعايشه في ما يلي من سطور، وقد اختار له مؤلفه اثنين من العناوين، حيث يتلخص العنوان الأول - الرئيس في الكلمة المحورية الواحدة، وهي: «الليبرالية».
أما العنوان الفرعي فيقول بالتالي: حياة فكـــــرة، بمعنى التأريخ لأصول ومسار فكرة الليبرالية كمذهب في السياسة وأسلوب في الحياة ومؤسسة سلوكية في المجتمع، من خلال رصد ما طرأ عليها من مستجدات وتطورات.
ولقد يزيد من أهمية هذا الكتاب حقيقة، أن مؤلفه لا يصدر فقط عن منطلق أكاديمي، بحيث تنحصر مقولات الكتاب في أطر الطروحات النظرية، بقدر ما يشكّل الكتاب في التحليل الأخير سياحة فكرية في فضاءات الليبرالية نظرياً وعملياً، يقودنا فيها المؤلف، الكاتب الصحافي البريطاني إدموند فوسيت عبر مفاهيم الليبرالية، وخلال استخدامها في عوالم السياسة والاقتصاد وتطبيقات الحكم على اختلاف الحقب الزمنية والنسق القطرية والأطر الثقافية.
وبحكم الاتساع في إطار البحث، فقد اختار مؤلفنا، بحكم ثقافته وخبراته الصحافية أيضاً، أن يركّز من حيث بُعد الزمان على الفترة التي تبدأ من عام 1830 وما بعده، ومن حيث بُعد المكان ركز المؤلف على أربع دول غربية ما بين أميركا إلى إنجلترا وما بين فرنسا إلى ألمانيا.
4 مفاهيم أساسية
أما المفاهيم الجوهرية التي تتدارسها طروحات هذا الكتاب، فيمكن أن نلخصها – بإيجاز شديد في المحاور الأساسية التالية، التي تشكل أسس الليبرالية:
(1) احترام الفرد من حيث كونه كائناً بشرياً أو عضواً في الجماعة الإنسانية، وقبل توصيفه من حيث النَسَب أو الثروة أو الوجاهة الاجتماعية أو النفوذ السياسي.
(2) التعامل مع القوة- أو السلطة (الشوكة كما يصفها تعبير المفكر المسلم الشهير ابن خلدون) ممّثلة بالدولة وهياكلها وأجهزتها وهيلمانها، بمنطق أقرب إلى المراجعة والمساءلة والتفكر، حتي لا نقول التشكك، بعيداً عن بمنطق الانصياع أو الانكسار أو الانقياد الأعمى.
(3) الإيمان الأساسي بالإنسان، بمعنى الإيمان بإمكانية التقدم البشري، وبأن الكائن البشري قادر على اتخاذ خطوات بنّاءة وقطع أشواط إيجابية، وصولاً إلى أهداف أفضل وغايات أرقى من حيث تطوير سبل المعيشة واستنباط وسائل وأساليب تحقق المزيد من الخير والأمل.
(4) احترام البشر جميعاً من حيث تفّرقهم إلى أمم وشعوب أو جماعات دون تمييز عرقي- إثني أو تفرقة عنصرية.
ثم يكاد المؤلف يجمل توجهاته الأساسية في متن هذا الكتاب، عندما يستطرد قائلاً: الليبرالية هي ممارسة للسياسة تتوخى مصلحة الناس الذين لا يجوز أن تجور عليهم أو تستهين بهم سلطة أعلى، سواء كانت سلطة الدولة أو سلطة الثروة أو سلطة المجتمع.
التحول نحو الاقتصاد
يزيد الأمر اضطراباً، هل نقول تعقيداً، عندما تتحول فصول كتابنا إلى دنيا الاقتصاد، فإذا بالكتاب يرصد بين صفوف الليبراليين مَن يصفهم بأنهم الكلاسيكيون، وقد نفهم هذا التصنيف على أنهم قدامي الليبراليين الذين لا يزالون متمسكين بحَرفية تطبيق مبدأ الحرية الاقتصادية بشكل مطلق، حيث الانصياع التام لما يصفونه بأنه آليات السوق بمعنى قوانين العرض والطلب بعيداً، بعيداً عن تدخل الدولة.
هناك أيضاً من يطلق عليهم المؤلف وصف المحدثين من أهل الليبرالية، وهؤلاء من يراهم مؤلف كتابنا أقرب إلى الانفتاح، بمعنى لا نقول الواقعية المستنيرة، أو الاستنارة الواقعية، وهو ما يدفعهم إلى المطالبة عند الضرورة بتدخل الدولة من أجل تصحيح أخطاء السوق.
في هذا السياق، يكاد المؤلف يفاجئنا بصورة مستجدة يرسمها لداعية الرأسمالية الشهير آدم سميث في كتابه الأشهر بعنوان «ثروة الأمم» (1776)، الموصوف بأنه إنجيل المذهب الرأسمالي، وباعتباره يمثل الوثيقة الفكرية التي كرست قوانين العرض والطلب.
لكن مفاجأة كتابنا تتمثل في أن المؤلف يؤكد سعة إطلاعه حين يحدثنا عن كتاب آخر أصدره آدم سميث نفسه بعنوان «نظرية المشاعر الأخلاقية»، وفيه يؤكد داعية الرأسمالية الأول على أهمية التعاطف الإنساني، وإيلاء الاعتبار لأحاسيس البشر ومشاعرهم بعيداً عن الرضوخ الاستسلامي لقوانين السوق. على أن هذا المـــنحى يتناقض مع تصوير المؤلف لشخصية أخرى من زماننا هذه المرة.
نتحدث تحديداً عن واحد من أهم الاقتصاديين المعاصرين، وهو عالِم الاقتصاد البريطاني، من أصل نمساوي فردريك هايك (1899- 1992) الحاصل على جائزة نوبل العالمية سنة 1974، عن نظريته المتعلقة بقضايا النفوذ والتغير الاجتماعي.
داعية لحقوق المرأة
على الجانب المقابل من هذه التصورات التي تجمع بين تاريخ الليبرالية وبين واقع طروحاتها وممارستها، تتجلى أيضاً صورة الفيلسوف الإنجليزي جون ستيوارت مِلْ (1806- 1873)، ولا سيما في كتابه المنشور بعنوان «عن الحرية».
وربما يعده الاختصاصيون واحداً من الأعمال التأسيسية لمذهب الليبرالية، وخاصة عندما يدافع ستيوارت مل عن مساواة المرأة بالرجل (وكان ذلك أمراً غير مسبوق عند منتصف القرن التاسع عشر)، وهو ما قاد الفيلسوف الإنجليزي أيضاً إلى الانحياز إلى جانب الشمال الأميركي المدافع عن إلغاء الرق وتحرير العبيد (الملونين) خلال الحرب الأهلية الأميركية.
في كل حال، بدأ مؤلف الكتاب رحلته أو سياحته الفكرية، كما أسلفنا، من عام 1830، وهو عام ثورة لويس فيليب الدستورية في فرنسا (وقد شهدها وسجّل تطوراتها واستوعب دروسها المبعوث الأزهري اللبيب رفاعة الطهطاوي)، وقد كان على مؤلفنا أن يواصل تحليله لتطور الليبرالية إلى زمننا الراهن، حيث عرض للتيارات الليبرالية المحدثَة التي تجلت.
كما يوضح المؤلف منذ حقبة الرئيس الأميركي الأسبق فرانكلين روزفلت (1882- 1945)، الذي أضفى على المذهب الليبرالي، كما تؤكد فصول الكتاب، بُعداً مستجداً، أو فلنقل اجتهاداً واقعياً وإيجابياً فرضته ظروف الأزمة الاقتصادية الرهيبة التي حاقت بأميركا مع مطلع ثلاثينيات القرن الماضي.
وما زالت تعرف في سجل التاريخ الاقتصادي المعاصر باسم الكساد العظيم (بمعنى الفادح الخطير): يومها انتهج روزفلت سياسة مستجدة بكل معنى على مذهب الرأسمالية الليبرالية التي تكرس، كما ألمحنا، قوانين السوق، وترفض، بالتالي، أي تدخل من جانب الدولة، ولو كان التدخل لوجه الترشيد أو التصحيح: بالعكس، فقد طبق الأميركي روزفلت سياسة حملت عنوانها الشهير، وهو الصفقة الجديدة.
وكانت تقضي بتدخل الدولة، الأميركية طبعاً، في دوران عجلة الاقتصاد بإنشاء المشاريع القومية الكبرى من سدود وطرق رئيسة وجسور وما في حكمها من مرافق البِني والهياكل الأساسية، وهو ما كفل آلافاً من فرص العمل لآلاف من عمال بلاده ممن كانوا يرسفون وعائلاتهم في ربقة البطالة والحرمان.
ومن ألمانيا يورد المؤلف اسم ويلي براندت (1913- 1992)، الذي شارك خلال توليه منصب المستشارية في بلاده في مزيد من تطوير ألمانيا، لتصبح أهم قوة اقتصادية على مستوى أوروبا.
الأنظمة التي ترفع شعار الليبرالية هي الأكثر تجاوزاً لها
رغم تكرار وسريان العديد من تعريفات الليبرالية، فإن الكتاب لا يلبث أن يؤكد كيف أن الأنظمة السياسية التي ترفع شعارات الليبرالية، هي التي تشهد تجاوزات بحق الليبرالية ذاتها.
وهنا، يلمح المؤلف مثلاً إلى تجاوزات السلطة الحاكمة في أميركا، وإلى مبالغات السلطات الفرنسية في التمسك بمذهب الحرية السياسية والحرية الاقتصادية، بمعنى تكريس الشعار الشهير الذي تلخصه عبارة، دعه يعمل، دعه يمر.
وهو ما جعل من رفع شعار الليبرالية أمراً مستبعداً، حتي في أسماء الأحزاب السياسية في الغرب ذاته، ربما باستثناءات قليلة أو حتى نادرة منها، حيث ما برح الأمر يقتصر، مثلاً، على الحزب الليبرالي (الأحرار) في بريطانيا، وحزب الليبراليين (الأحرار) الألمان، الذين يصفهم المؤلف بأنهم سرعان ما اقتربوا في زمانهم من سياسات بسمارك، الذي يمّثل في تاريخ ألمانيا منذ الربع الأخير من القرن 19 حاكماً أقرب إلى الشمولية، حيث أدار فترة مستشاريته تحت شعار الحديد والنار.
حتى السياسيون والمفكرون الذين تبّنوا الأفكار الليبرالية، لم يكن يستهويهم أن يطلق عليهم وصف ليبرالي، بسبب ما اختلط بهذا المصطلح، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، من ظلال وصراعات وانقسامات، يستوي في ذلك مفكر وجودي مثل الفرنسي جان بول سارتر، أو مفكر اقتصادي، مثل الأميركي ميلتون فريدمان أو سياسي بريطاني، مثل رئيسة الوزراء مارغريت تاتشر.
على أن مشكلة الليبرالية، خاصة بعد أن تحولت من مجرد نمط في السلوك إلى مصطلح في السياسة والشأن العام، أنها أصبحت، كما يقول كتابنا، تصدُق على أفكار وتصنيفات شتى، بعضها متناقض في بعض الأحيان حيث الليبراليون، كما يوضح المؤلف، من دعاة التمسك بالانتماءات القومية، بقدر ما أن منهم من يدعو إلى اتباع النهج الدولي.
ومنهم من يحّرض على إشعال الحرب، بقدر ما أن منهم من يدعو إلى إقرار السلام، ومنهم أيضاً من هو منفتح على تيارات اليسار الاشتراكي، بقدر ما أن صفوف هؤلاء الليبراليين، تضم أحياناً غلاة العداء لليسار وللاشتراكيين.
التركيز على عنصر النفعية البحتة
فيما يصور المؤلف آدم سميث، بأنه أقرب إلى الليبرالية المتعاطفة مع الإنسان، فها هو يصور هايك بأنه أقرب إلى الليبرالية غير الإنسانية، حين يقول إن أفكاره الاقتصادية كانت تركز أساساً على عنصر النفعية البحتة، بعيداً عن اعتبارات التعاطف أو الأخلاقيات، وبمعنى التركيز على نجاح العملية الاقتصادية دون أي انشغال، لا بالعدالة أو الحقوق أو القانون أو الخصوصية، وإنما الشاغل المحوري الأول، كان يتمثل عند فردريك هايك في عبارة واحدة، هي: النمو الاقتصادي.
المؤلف في سطور
يعد إدموند فوسيت من كبار الصحافيين المخضرمين في إنجلترا، ولا يزال يواصل كتاباته وتحليلاته التي تجمع باستمرار بين سعة الاطلاع الثقافي واتساع الخبرة الميدانية، بحكم عمله عبر سنوات طويلة مراسلاً خارجياً لمجلة «الإيكونوموست» اللندنية بكل سمعتها الذائعة، بوصفها مصدراً رصيناً للمعلومات والتحليلات الاقتصادية والسياسية في ما يتعلق بقضايا العالم كله.
وقد أمضى المؤلف في خدمة «الإيكونوموست» أكثر من ثلاثة عقود، حيث ترأّس مكاتبها الخارجية في كل من واشنطن وباريس وبرلين، فضلاً عن تولّيه رئاسة التحرير المسؤولة عن القضايا الأدبية وشؤون الاتحاد الأوروبي في «الإيكونوموست».
0 التعليقات :
إرسال تعليق