كان فرويد على صواب عندما عبر عن خيبة أمله من البشرية
في الثالث والعشرين من أيلول عام 1939 رحل عن عالمنا
عالم النفس الشهير سيجموند فرويد. وعلى رغم مرور أكثر من ثمانية عقود، على تأليف فرويد
لكتابي " مستقبل وهم " (1927) و" قلق في الحضارة " (1929) ، فإن
ما شهده العالم، ويشهده اليوم، من أحداث وتحولات وأزمات، يؤكد، إلى حد كبير، على صحة
الأفكار الواردة في الكتابين المذكورين. نعم، لقد كان فرويد على صواب في قلقه على الحضارة
وتشاؤمه من مستقبل البشرية؟
فالنزعة التدميرية والعدوانية التي جعلت من
" الإنسان ذئب الإنسان" ما زالت مسيطرة، ومصير صراعها مع نزعة الحب والحياة
لم يحسم لصالح هذه الأخيرة. الأمر الذي يتجلى بوضوح في الحروب المتلاحقة، التي حصدت،
وما زالت، مئات الملايين من البشر (أدت الحرب العالمية الثانية إلى مقتل ما بين 50
إلى 85 مليون شخص.
أي ما يعادل 2.5 ٪ من سكان العالم في تلك الفترة).
نعم لقد كان فرويد على صواب عندما عبر عن خيبة أمله من البشرية، التي تمكنت من سن القوانين
الرادعة الكفيلة بالحد من الجرائم الفردية التي يرتكبها الإنسان بحق الإنسان، لكنها
لم تستطع إنتاج تلك السلطة العالمية التي بإمكانها ممارسة دورها الإنساني في لجم نزعة
العدوان والتدمير التي تمارسها العديد من الدول. فكما يتساءل فرويد: ما الفائدة، من
تحليل العصاب الاجتماعي، ما دام أحد لن يملك السلطة اللازمة ليفرض على الجماعة العلاج
المطلوب؟.
في هذا السياق، يمكن القول، كان من الممكن، أن تكون
الأمم المتحدة، هي تلك السلطة المفترضة، المعبرة عن المصلحة العليا للبشرية، في العدالة
والمساواة وتحقيق السلام ومنع انتهاكات حقوق الإنسان في هذا العالم. لكنها، فشلت في
ذلك. حيث خضعت لإرادة قوى عالمية، فقدت عقلها وإنسانيتها.
بل إنها، أي الأمم المتحدة، تحولت لأداة بيد تلك
القوى، وهي بذلك تشبه، إلى حد كبير، ما حصل، ويحصل، مع الأديان، حيث خضعت، لسلطة قوى
الشر، العظمى منها والصغيرة، وصودر دورها المفترض في الدعوة للحب والتسامح الإنسانيين،
والتخفيف من حدة النزعات العدوانية والشريرة لبني البشر.
فباسم الدين، تخاض اليوم الحروب، الخارجية منها
والداخلية، ويمارس بحق الناس مختلف أشكال العنف والقتل. وعليه بالإمكان القول، أن سلطة
العقل التي طالما دعى فرويد لها ، وربط تقدم البشرية بها، ما زالت ضعيفة، ليس في البلدان
المتخلفة، وحسب، بل أيضاً في البلدان المتقدمة؟! حيث مازالت سلطة راس المال، تلعب الدور
الرئيسي في رسم السياسات الداخلية والخارجية للدول. ومازالت المصالح، لاسيما الاقتصادية
منها، هي لغة التفاهم السائدة فيما بينها.
فإضافة إلى الحروب وأعمال القتل والدمار والعدوان،
هناك شواهد، تؤكد صحة ما ذهب إليه فرويد وتنبأ به. فماذا يعني وجود ملايين الجياع في
العالم، وتفاقم ظاهرة الفقر، واستمرار الفوارق الحادة بين البشر، وبين الدول، في زمن
تتكدس فيه الثروات، وتنتج البشرية من الغذاء والحاجات ما يكفيها وزيادة ( يقدر عدد
سكان العالم بـحوالي 6مليار إنسان. وتشير الاحصائيات إلى أن هناك مليار إنسان يعانون
من الجوع، و 2 مليار فقير. وهناك 1.5 مليار لا يحصلون علي مياه شرب نقية. وحوالي
13 مليون طفل في العالم يموتون سنوياً قبل اليوم الخامس من ميلادهم لسوء الرعاية أو
سوء التغذية أو ضعف الحالة الصحية للطفل أو الأم نتيجة الفقر أو المرض )؟!
وبماذا نفسر العودة إلى الأصولية، ليس في الدول
المتخلفة والمستبدة وحسب، بل في دول تعتبر نفسها الأب الشرعي لقيم الديمقراطية والعلمانية
والعقلانية ؟! ولماذا يكرس نمط الحياة الاستهلاكي والمادي، وتعمم الثقافة السطحية الفقيرة
بالمعرفة والذوق والجمال، على حساب الثقافة الحقيقية التي يحتاجها الانسان، والتي تعبر
عن رقيه وتطوره.
وبينما تعاني المرأة في المجتمعات المتخلفة، من
الظلم واللا مساواة، والإجحاف الشديد بحقوقها وإنسانيتها، فإنها في البلدان المتقدمة،
وعلى أهمية ما تحقق لها من مكاسب نوعية، إلا أنها لم تصل بعد إلى مرحلة المساواة الكاملة
مع الرجل. ومثال ذلك، تهميشها من الحياة السياسية، الأمر الذي يتبدى بوضوح بهيمنة الرجال
على المناصب السياسية، في الأحزاب والحكومات والبرلمانات. ولا يغير من هذه الحقيقة
وجود بعض الاستثناءات الفردية هنا وهناك؟.
من ناحية أخرى، وبغض النظر عن صحة ما ذهب إليه فرويد
حول دور الحضارة في تقييد الحريات، إلا أن المنطق يقول أن بإمكان الإنسان، بل ومن المفترض
به، في ظل التقدم المذهل للبشرية على صعيد العلوم والتكنولوجية، أن يتحرر أكثر من سيطرة
العديد من القوى التي كانت تستعبده. لكن الوقائع، على هذا الصعيد، تشير إلى وجود العديد
من الإرهاصات والإشكاليات. فلا تندر الحالات التي تحول فيها ذلك التقدم العلمي، من
نعمة للإنسان، إلى نقمة عليه. الأمثلة على الاستخدامات اللا إنسانية للعلم والتكنولوجية،
أكثر من أن تحصى. نذكر منها ، تصنيع أسلحة القتل ( طائرات، دبابات، مدافع، صواريخ،...إلخ)
وضمناً اسلحة الدمار الشامل ( يقدر عدد ضحايا القنبلتين
النوويتين اللتان ألقيتا على مدينتي هيروشيما وناغازاكي بحوالي 350 ألف شخص). وابتكار
وسائل التعذيب التي تستخدم ضد المعتقلين في الأنظمة الاستبدادية. واختراع أجهزة المراقبة
والتنصت التي بات بإمكانها التدخل في تفاصيل حياة الناس. إذاً، الحضارة في أزمة، لأنها
فشلت حتى الآن في تلبية احتياجات البشر الحقيقية، المادية منها والمعنوية، ولم تجلب
لهم السعادة التي ينشدونها. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، لأن ارتقاء الحضارة مشروط
بنتيجة الصراع بين نزعتي الحياة والموت أو التدمير، والذي حسم حتى الآن لصالح هذه الأخيرة.
في سياق لا يبتعد عما نتحدث عنه، بل ربما يكون في
صلبه، نشير إلى موقف فرويد من الماركسية، ومن التجربة الاشتراكية في روسيا التي عاصر
عقودها الأولى. حيث عبر عن حماسه للعديد من أفكار، وربما ممارسات، تلك التجربة، لكنه
انتقد مصادرتها لحرية التفكير. وهو وإن نظر بإيجابية لمسألة إلغاء الملكية الخاصة،
إلا أنه، رأى فيها من الناحية السيكولوجية " وهماً لا يقوم على أساس من الواقع"
لأن العدوانية الملازمة للإنسان، بحسب فرويد، وجدت حتى في عصر المشاعة الذي لم يعرف
الملكية الخاصة. ولعل هذا ما يفسر لماذا كان فرويد حذراً في تفاؤله بمستقبل تلك التجربة،
التي انهارت بالفعل، بعد حوالي نصف قرن، من وفاته؟!
لكن فرويد، لم يكن راضياً أيضاً عن النظام الرأسمالي،
بل يمكن اعتباره من المتمردين عليه. حيث وجه له انتقادات شديدة وجريئة، كاشفاً ما فيه
من إشكاليات وسلبيات وتناقضات، لا سيما، على صعيد علاقاته الاجتماعية وثقافته السائدة،
الأمر الذي جعله، يكرر، وبشدة، الدعوة لإعلاء سلطة العقل والعقلانية، ونشر الفلسفة
المادية والثقافة الإنسانية، رافضاً بذلك، الاستسلام للاستنتاجات المتشائمة، التي توصل
لها بنفسه، حول واقع الحضارة ومستقبل البشرية.
0 التعليقات :
إرسال تعليق