حفلات مهرجان الثقافة الصوفية تتواصل بمدينة فاس وتقتفي أثر ابن عربي
مقامات روحية تختفي فيها الفوارق وترتقي النفوس إلى المحبة السامية
على إيقاعات موسيقية وشعرية جمعت بين فنانين من المغرب والأندلس، انطلقت عشية يوم السبت 12 أبريل في متحف البطحاء بمدينة فاس الدورة الثامنة لمهرجان الثقافة الصوفية الذي اختير له هذه السنة شعار
"على خطى ابن عربي" كما كان لجمهور هذه التظاهرة الثقافية والفنية مساء اليوم نفسه لقاء مع الفنان السوري حمام خيري الذي قدم موشحات روحية من الشرق والغرب.
برنامج هذا المهرجان، الذي يقام تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس، يتضمن حفلات من التراث الروحي المغربي وأمسيات روحية لمجموعات صوفية من المغرب وخارجه، بجانب ندوات فكرية مخصصة للشيخ الأكبر ابن عربي يشارك فيها العديد من الباحثين والمفكرين. كما تكرم الدورة الأستاذة سعاد الحكيم التي لعبت دورا رياديا في الدراسات المعاصرة المتعلقة بابن عربي.
وخلال افتتح الدورة الثامنة، قدم الدكتور فوزي الصقلي (مدير المهرجان) كلمة بالمناسبة تحدث فيها عن محيي الدين ابن عربي الملقب بـ"الشيخ الأكبر"، مشيرا إلى أنه من أكثر المفكرين والمبدعين شمولية وعمقا في عالم التصوف، حيث ترك أكثر من أربعمائة مؤلف من بينها ما يضم مجلدات عديدة كالفتوحات المكّية في سبعة وثلاثين مجلدا، أو تفسيره للقرآن الكريم (المفقود حاليا) في أربعة وستين مجلدا. وأضاف الصقلي أن صيت ابن عربي وعلمه بلغا الآفاق شرقا وغربا، وأن رحلاته المختلفة رسمت معالم جغرافيا تلاقح تجارب روحية مختلفة مع "الحكمة الحاتمية" التي رسخها، موضحا أن إقامة الشيخ الأكبر بمدينة فاس في عدة مناسبات وخاصة في مسجد الأزهر بالمدينة العتيقة (حاليا في طور الترميم) تظهر مدى حاجتنا إلى اقتفاء أثر هذا الشيخ الصوفي من أجل فهم موروث أحد أنواع الفكر الأكثر خصوبة وأهمية في علوم التصوف والحكمة الكونية.
وهكذا، تشكل الدورة الحالية من مهرجان فاس للثقافة الصوفية فرصة لاقتفاء أثر صاحب "الفتوحات المكّية"، حيث ستعمل على استعادة رحلاته إلى الأندلس التي ولد فيها، مرورا بالمغرب ومكة المكرمة ومصر والأناضول وسوريا... لقراءة فضاءات اللقاء والتجارب الروحية والتلاقح والحكمة الحاتمية التي تواصل حضورها وتأثيرها في الثقافة الإسلامية وفي مختلف مدارس الحكمة عبر العالم إلى يومنا هذا، وذلك بهدف فهم موروث أحد أنواع الفكر الأكثر خصوبة وأهمية في علوم التصوف والحكمة الكونية.
ويشهد المهرجان مشاركة أهم الطرق الصوفية في المغرب
(التيجانية، الشاذلية، القادرية، الوزانية، الشرقاوية...) وبعض الطرق المدعوة من مختلف البلدان خاصة الطريقة النقشبدنية من تركيا والطريقة القادرية من البوسنة والهرسك. وفي هذا الإطار، تقام مجموعة من الحفلات الصوفية من سماع الشرق والغرب، كما يتم إدراج حفلات للموسيقى العربية الأندلسية، مما سيمكن المستمعين من اكتشاف غناء عميق ومؤثر للتصوف: أذكار، ابتهالات، أناشيد روحية..
البعد الأنثوي
من بين مميزات الدورة الثامنة لمهرجان فاس للثقافة الصوفية كونها تعمل على استحضار خاص للأهمية التي يحتلها البعد الأنثوي في تطور المجتمعات الإنسانية، انطلاقا من منظور صوفي.
وفي هذا الاتجاه، يخصص المهرجان خلال دورة هذا العام فسحا متعددة لاستعادة المعطى الأنثوي في الثقافة الصوفية، وذلك من خلال الحضور اللافت لبعض أهم الباحثات والمفكرات في التراث الصوفي الوطني والدولي، كالباحثة النيجيرية سلاماتو صو والمغربيتين نزهة برادة وسعدى ماء العينين... وغيرهما.
كما تجدر الإشارة إلى أن اليوم الثاني من المهرجان تميز بتكريم واحدة من الأصوات النسائية الصادحة في سماء الفكر الصوفي المعاصر، يتعلق الأمر بالباحثة اللبنانية الأستاذة سعاد الحكيم التي كرست جهدها لدراسة التراث الصوفي، وخصوصا عند ابن عربي والغزالي، وعملت على إيصالها إلى فضاءات ثقافية عديدة في العالم الغربي بكل من إيطاليا وإسبانيا وانجلترا وأمريكا وفرنسا، قبل أن تنفتح على الفضاءات الثقافية العربية، وهي التي أكدت أن أهم ما علّمه إياها ابن عربي وعملت على إيصاله إلى العالم قناعتها ـ على حد قولها ـ أن كل شيء في هذا العالم مقدّس، نظرا لكونه ينتمي إلى الله ومن خلق الله.
وعلى حد تعبير الدكتور فوزي الصقلي، رئيس المهرجان، كانت صور بعض الشخصيات التاريخية كليلى ومايا في التراث الشعري العربي ما قبل الإسلام والحب العذري الأفلاطوني تشكل الرموز المحورية للحب الكوني لدى المتصوفة، كما تم التعبير عنه في أشعار رابعة العدوية والحلاج وجلال الدين الرومي وابن عربي...
ومن المعلوم أن الرومانسية الروحية لدى المتصوفة ـ يضيف الصقلي ـ قد أضفت على النساء دلالة رمزية أساسية ساهمت في انتزاع الاعتراف بأهمية الموقع الذي يتبوأنه. ومن هنا، عملت الثقافة الصوفية على فتح الأعين على دور البعد الأنثوي في كل تنمية مجتمعية.
فكر ابن عربي
أجمع عدد من الباحثين العرب
والأجانب على أن مهرجان فاس للثقافة الصوفية يشكل محطة فريدة من محطات سبر أغوار
الموروث الثقافي الصوفي، مستدلين على ذلك بتخصيص جانب مهم من اللقاءات العلمية
للمهرجان لاقتفاء أثر أبرز شيوخ الفكر الصوفي والحكمة الإنسانية.
دورة هذه السنة، وسيرا على
هذا النهج، حاولت ـ من خلال مجموعة من الموائد المستديرة ـ إماطة اللثام عن
الموروث الفكري لمحيي الدين ابن عربي، الذي يلقب بـ"الشيخ الأكبر"، ويعد
من أكثر المبدعين شمولية وعمقا في عالم التصوف، حسب توصيف رئيس المهرجان الدكتور
فوزي الصقلي.
ولعل من أبرز ما توقفت عنده
المائدة المستديرة التي احتضنها متحف البطحاء حول السيرة الذاتية لابن عربي، يوم
الاثنين المنصرم، فكره الصوفي والذي اعتبره الدكتور محمد العدلوني الإدريسي
(الأستاذ الباحث في مجال الفكر الصوفي الإسلامي) فكرا فلسفيا دقيقا، استطاع أن
يشكل توليفا خلاقا بين العقل والوجدان، ليس بالمعنى العقلاني الاستدلالي لأرسطو،
وإنما بمعنى خاص، يعتبر معرفة الله تأتى بالعقل، في حين أن معرفة الباطن تتأتى عن
طريق أداة مغايرة وهي الوجدان والحدس. ويضيف الدكتور العدلوني أن مذهب ابن عربي
يتميز بصدقه وقدرته على الحفر في أعماق الفكر الإنساني، كما أن فكره يقوم على أساس
إثبات دقيق للوحدة. ويعتبر العدلوني أن عدم فهم الوحدة بدقة وعمق سيؤدي بالمفكر
إلى الانزلاق والانحراف عن جادة الحقيقة.
حفلات روحية
على غرار سابقاتها، تسعى دورة
هذه السنة من مهرجان فاس للثقافة الصوفية أن تجسد المبدأ العام الذي تلتئم حوله كل
الممارسات الصوفية، والمتمثل في كون التصوف "ذِكر وفكر". وفي هذا
الإطار، وبجانب اللقاءات الفكرية والعلمية التي تحتضنها هذه التظاهرة بمشاركة عدد
من الباحثين والمختصين، يحتضن "متحف البطحاء" خلال أمسيات المهرجان
حفلات روحية تحييها عدد من المجموعات التي تمثل أبرز الطرق الصوفية في المغرب
(الشرقاوية، الوزانية، الحراقية، الصقلية، القادرية البوتشيشية...) بالإضافة إلى
طرق صوفية من بعض البلدان الإسلامية الأخرى (كالطريقة الخلواتية من تركيا والطريقة
القادرية من البوسنة والهرسك).
ويتابع هذه الحفلات الراقية
جمهور مهتم من المغرب ومن عدد من بلدان العالم، باعتبار أن العديد من السياح ومن
المهتمين بعالم التصوف الأجانب يحرصون على زيارة فاس خلال هذه المناسبة، خصيصا من
أجل التعرف عن كثب عن تلك الطرق وللانصهار في الأجواء الروحية التي تتيحها للجميع،
حيث تختفي الفوارق وتتسامى النفوس وتتوحد القلوب.
ومثلما يرى عدد من المهتمين،
فإنه رغم الاختلافات الشكلية بين الطرق الصوفية، فإنها تلتقي في مجموعة من العناصر
المشتركة، من بينها: التوحيد وذكر الله والاستغفار والصلاة على الرسول محمد (ص)
والتوكل على المولى عز وجل والصبر على العبادات والاستعداد ليوم الحساب، وذلك ضمن
طقوس جماعية تتمسك بالسنة وتقصي البدعة.
ومن ثم، تعكس الحفلات الصوفية
نماذج من المسالك التي ينتهجها الإنسان المسلم ابتغاء مرضاة ربه، وأملا في الوصول
إلى مقامات ترتقي فيها العبادات والأذكار والمدائح إلى مرتبة المحبة السامية، محبة
الله عز وجل ومحبة رسوله المصطفى عليه أفضل الصلاة والتسليم.
0 التعليقات :
إرسال تعليق