التحرك الأميركي في العراق جهد «سيزيفي» تعرقله
عناصر طائفية وإقليمية
النظام العالمي التصدي الدولي لـ«داعش» ضرورة حتمية
المصدر: تأليف: هنري كيسنجر - عرض ومناقشة: كامل
يوسف حسين
يستمد هذا الكتاب أهميته من أنه يقدم لنا تحليلاً
عميقاً لجذور التناغم الدولي والاختلال العالمي، استناداً إلى التجربة العميقة التي
خاض مؤلفه هنري كيسنجر غمارها، باعتباره أحد رجال الدولة البارزين في العصر الحديث،
حيث قدم النصح للرؤساء الأميركيين، وجاب أرجاء العالم، ورصد وشكل أحداث السياسة الخارجية
المحورية في العقود الماضية.
لعل أهم ما يتضمنه هذا التحليل أنه ينطلق من محاولة
فهم التحدي المطلق للقرن الحادي والعشرين، وهو كيفية بناء نظام دولي مشترك في عالم
قوامه رؤى تاريخية متباينة وصراع عنيف وتقنية آخذة في الانتشار ونزعة أيديولوجية متطرفة.
ويتوج هذا التحليل في نهاية المطاف بسؤال بالغ الدقة
هو: إلى أين نمضي من هنا؟ وهذا السؤال يمضي به المؤلف إلى تأكيد أنه للقيام بدور مسؤول
في تطور النظام العالمي للقرن الحادي والعشرين، فإن الولايات المتحدة ومجتمعات أخرى
يتعين عليها أن تجيب عن خمسة أسئلة رئيسية، تدور حول ما تحاول تحقيقه في إطار النظام
الدولي وسبل تحقيق هذه العملية.
في الفصل الثامن من الكتاب الذي يحمل العنوان الدال
«الولايات المتحدة: القوة الكبرى المترددة»، يقدم لنا المؤلف هنري كيسنجر تحليلاً لحربي
أفغانستان والعراق، يستحق التوقف عنده طويلاً حقاً.
ابتداء، يشير المؤلف إلى أنه بعد مناقشة مؤلمة لـ«دروس
فيتنام»، أعادت ورطات كثيفة بالقدر نفسه صياغة نفسها بعد ذلك بحربي أفغانستان والعراق،
ولا يتردد في الإعراب عن اعتقاده بأن كلا الصراعين يضرب جذوره في إحداث انهيار في النظام
الدولي. وبالنسبة للولايات المتحدة فإن كلا هذين الصراعين قد انتهى بالانسحاب.
تقسيم الأمر الواقع
يرى المؤلف أن الاحتمالات الإقليمية بالنسبة لأفغانستان
تظل حافلة بالتحديات، وأنه في الفترة اللاحقة للانسحاب الأميركي الوشيك من هناك، فإن
سيطرة الحكومة الأفغانية يحتمل أن تظل سارية في كابول والمناطق المجاورة لها، ولكن
ليس بشكل شامل في باقي البلاد.
ومن المحتمل أن يسود هناك اتحاد كونفدرالي من الأقاليم
شبه المتمتعة بالحكم الذاتي والإقطاعية على أساس عرقي متأثر بشكل ملموس بالقوى الأجنبية.
والتحدي سيعود إلى حيث بدأ، أي تساوق أفغانستان مستقلة مع نظام سياسي إقليمي.
ويقول كيسنجر إن المفارقة المطلقة هي أن أفغانستان
التي مزقتها الحرب، ربما تكون حالة اختبار لما إذا كان النظام الإقليمي في هذه المنطقة
من العالم يمكن استخلاصه من مصالح أمنية متباينة ومن رؤى تاريخية مختلفة. ومن دون برنامج
دولي قابل للاستدامة بشأن أمن أفغانستان.
فإن كل جار كبير لها سيدعم أجنحة متنافسة عبر خطوط
عرقية وطائفية قديمة. وستكون النتيجة المحتملة هي تقسيم بحكم الأمر الواقع، مع سيطرة
باكستان على الجنوب البشتوني ومحاباة الهند وروسيا وربما الصين للشمال المختلط عرقياً.
ولتجنب أي فراغ في أفغانستان، فإن الحاجة ماسة إلى
جهد دبلوماسي كبير لتحديد نظام إقليمي للتعامل مع إعادة البروز المحتملة لتلك البلاد
كمركز للتطرف. وفي القرن التاسع عشر ضمنت القوى الكبرى حياداً بلجيكياً، وهو ضمان دام
قرناً من الزمان تقريباً. فهل يعد ضمان مماثل مع إعادة التحديدات المناسبة أمراً ممكناً؟
إذا تم تجنب مثل هذا المفهوم أو مفهوم يمكن أن يقارن به، فإن أفغانستان يحتمل أن تجر
العالم إلى حربها المتواترة.
السؤال الذي يبرز هنا هو، على الفور تقريباً، إذا
كان هذا هو السيناريو المحتمل في أفغانستان، فماذا عن سيناريو العراق؟
خبايا السيناريو العراقي
يعيد المؤلف إلى أذهاننا أنه في أعقاب أحداث الحادي
عشر من سبتمبر، صاغ الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن بدعمه بالتزام تحول ديمقراطي.
وجادل واضعو استراتيجية الأمن القومي لعام 2002 بأن «نضالات القرن العشرين العظيمة
أظهرت أن هناك نموذجاً واحداً قابلاً للاستدامة للنجاح القومي: الحرية، الديمقراطية
والمشروع الحر».
يكشف كيسنجر النقاب عن أن الركن المكين لما أصبح
يدعى بأجندة الحرية» هو تحويل العراق من كونه بين دول الشرق الأوسط الأكثر قمعية إلى
ديمقراطية متعددة الأطراف، ستلهم بدورها تحولاً ديمقراطياً إقليمياً. وجاء في هذه الوثيقة
أن: «الديمقراطية العراقية ستكلل بالنجاح، وذلك النجاح سيبث الأخبار من دمشق إلى طهران
بما يفيد أن الحرية يمكن أن تكون مستقبل كل أمة».
ويؤكد المؤلف لنا أن «أجندة الحرية» لم تكن، كما
زُعم في وقت لاحق، التدخل التعسفي لرئيس واحد والفريق المحيط به، فمقدمتها الأساسية
كانت تطويراً لموضوعات أميركية بصورة جوهرية.
يكشف كيسنجر لنا أنه، لدى استشارته، بادر إلى تأييد
قرار أميركي بتغيير النظام في العراق، وكانت له شكوك أعرب عنها علناً وفي لقاءات حكومية
بصدد توسيع نطاق هذا القرار إلى بناء أمة وإعطائه هذا النطاق الواسع.
ويحرص السياسي العتيد على تسجيل تقديره للرئيس بوش
قبل أن يبادر إلى تفصيل القول حول تحفظاته على قراراته. ويقول في هذا الصدد إن نشر
القيم الأميركية عن طريق القدوة والمساعدة المدنية، كما في خطة مارشال وبرامج المساعدة
الأميركية، هو جزء من العرف الأميركي المهم والذي يحظى بالتقدير.
ولكن السعي لتحقيق هذه القيم بالاحتلال العسكري
في جزء من العالم ليست لها فيه جذور، وتوقع تغير جذري في مرحلة مهمة على الصعيد السياسي،
هو أمر برهن على تجاوز ما يؤيده الرأي العام الأميركي وما يمكن أن يستوعبه المجتمع
العراقي.
«سيزيف» الأميركي والعراق
يلفت نظرنا هنا أن هنري كيسنجر يصف الجهد الأميركي
الحالي في العراق بأنه له طابع «سيزيفي»، عبثي، ولا طائل وراءه، وذلك في ضوء الانقسامات
العرقية في العراق والصراع الطائفي والخط الفاصل الذي يمر بقلب بغداد. وقد ضاعفت مقاومة
الأنظمة المجاورة للعراق هذه الصعوبات، وأصبح هذا الجهد حراكاً لا نهاية له، يفشل دوماً
في الاقتراب من النجاح.
من منظور المؤلف، فإن غرس الديمقراطية التعددية
في موضوع نظام الرئيس العراقي الأسبق قد برهن بلا حدود على أنه أكثر صعوبة من الإطاحة
بهذا الدكتاتور، فالشيعة الذين تصلبت مواقفهم بفعل عقود من الطغيان الذي تعرضوا له
قد مالوا إلى ربط الديمقراطية بالتصديق على سيطرتهم العددية، وبالمقابل فإن السنة تعاملوا
مع الديمقراطية على أنها مؤامرة لقمعهم، وعلى هذا الأساس قاطعت أغلبيتهم انتخابات عام
2004، وهو الأمر الذي ساهم في تحديد النظام الدستوري في مرحلة ما بعد الحرب.
أما الأكراد في الشمال والذين لم تفارقهم ذكريات
الهجمات القاتلة التي شنتها بغداد عليهم، فقد وسعوا نطاق قدراتهم العسكرية المنفصلة،
وناضلوا من أجل السيطرة على حقول النفط ليوفروا لأنفسهم عائداً لا يجعلهم معتمدين على
الخزانة الوطنية.
كانت الانفعالات المحتدمة بالفعل في مناخ الثورة
والاحتلال الأجنبي قد تم استغلالها من قبل القوى الخارجية، وبصفة خاصة من جانب إيران
وسوريا.
وفي هذا المناخ جاء قرار الرئيس الأميركي بوش بزيادة
القوات العسكرية الأميركية ليقابل بقرار غير ملزم بعدم الموافقة، دعمه 246 عضواً في
مجلس النواب الأميركي، وذلك على الرغم من أنه فشل في مجلس الشيوخ لأسباب إجرائية، حيث
عارضه 56 من أعضاء المجلس، وسرعان ما أعلن رئيس الأغلبية: «لقد خسرنا هذه الحرب وزيادة
القوات لا تحقق أي شيء».
وفي الشهر نفسه أصدر المجلسان قوانين مارس الرئيس
الأميركي حق النقض في مواجهتها، تؤكد ضرورة الانسحاب الأميركي من العراق في غضون عام.
وقد قيل إن بوش قد أغلق جلسة التخطيط لعام 2007
بسؤال محدد، وهو: «إذا لم نكن هناك لكي نفوز، فما سبب وجودنا هناك؟».
جسدت هذه الملاحظة الطابع الحاسم لشخصية الرئيس
الأميركي، وكذلك مأساة بلد أعد شعبه على امتداد ما يزيد على نصف قرن لإرسال أبنائه
وبناته إلى أركان العالم القصية دفاعاً عن الحرية، ولكن لم يتمكن نظامه من الهيمنة
على الهدف ذاته الموحد والمتواصل، ذلك أنه بينما نجحت الزيادة في القوات الأميركية
في العراق في انتزاع نتيجة مشرفة من قلب انهيار وشيك، فقد غير هذا المنعطف المزاج النفسي
الأميركي.
لقد فاز باراك أوباما بترشيح الحزب الديمقراطي له
لخوض السباق الرئاسي، في أحد الجوانب، استناداً إلى قوة معارضته للحرب في العراق. ولدى
توليه مقاليد منصبه الرئاسي، واصل انتقاده العلني لسلفه، وتعهد بـ«استراتيجية خروج»
مع تشديد أكبر على الخروج مقارنة بالاستراتيجية.
وفي الوقت الراهن، فإن العراق يعد ميدان المعركة
المركزي في صراع إقليمي طائفي يواصل الاندلاع، وتميل حكومته نحو إيران وعناصر من سكانه
السنة يخوضون معارضة عسكرية للحكومة. وتأييد أعضاء على جانبي خط الانقسام الطائفي للعناصر
المتشددة في سوريا وتنظيم «داعش» الذي يحاول السيطرة على أراض ممتدة في سوريا والعراق.
تتجاوز هذه القضية النقاشات السياسية حول سابقاتها.
ويدعو دعم الكيان المتشدد القائم في قلب العالم العربي، المزود بأسلحة يعتد بها غنمها
من الجيش العراقي، وقوة مقاتلة عابرة للدول، والمنغمس في حرب دينية مع جماعات شيعية
عراقية وإيرانية، إلى استجابة دولية منسقة وقوية، وإلا فإنه سيتعملق، ويتضخم، وستمس
الحاجة إلى جهد استراتيجي ممتد من قبل أميركا والأعضاء الآخرين الدائمين في مجلس الأمن
الدولي وربما خصوم «داعش» الإقليميين.
.
عدد الصفحات: 420 صفحة
الناشر: بنغوين، نيويورك، 2014
0 التعليقات :
إرسال تعليق