شهادات رحيل الشاعر الكبير أنسي الحاج







الرسالة التحرّرية
عن المستقبل اللبنانية
عبد القادر الجنابي
(كاتب وشاعر وناشر))
إنها الرسالة التحررية لشعر أنسي الحاج الخالي من اي تلميح ايديولوجي، تكمن، من جهة، في انه وضع توجهاً شعرياً كلاسيكي المنحى كان سائداً، على الرف؛ مرة وإلى الأبد. ومن الجهة الأخرى، في قدرته على زج اللغة الشعرية في معمعان التجريب الطليعي بنقل القصيدة من نطاق الدمدمة في الأذن الى صور تسمعها العين.
ان غياب الأيديولوجيا ورموزها في شعر أنسي الحاج، ساعد عدداً كبيراً من الشباب على تجنب الشعارات في شعرهم، والتركيز أكثر على وظيفة فكرهم الحقيقية، بل بتنا نرى، في الآونة الأخيرة، شعراً أنثوياً متخلصاً من نحو الذكورية، وخطاب البلاغة السلطوية.
لا أعني بغياب الوعي الأيديولوجي، ان أنسي الحاج لم يكترث لما كان يحدث في العالم من أحداث تحتاج الى تحليل وموقف. على العكس، كان نثره الأسبوعي في ملحق «النهار» تحت عنوان «كلمات كلمات كلمات»، يبين إلى اي مدى كان المجتمع اللبناني، وبالتالي العربي، يحقق الحرية أولاً. ذلك أن أنسي الحاج، بقدر ما كانت شاعريته تتبلور قصائد نموذجية خارجة على المالوف العربي، كان هو ملقى في خضم الحياة، في معمعان الحرية اللبنانية التي كانت تصل الجوار العربي هواء نقياً يعد بالف مستقبل مضيء. بل كان يعرض نفسه للخطر بسبب مقالات جريئة وواضحة، كتلك التي قرأها في طرابلس دفاعاً عن المرأة: «والرجل ما دوره؟ على الرجل أدوار لا دور واحد، عليه ان يحرض المرأة على الحرية، وعليه ان يكون لائقاً بها متى تحررت، وعليه، وهذا هو الأهم، ان يكون هو نفسه حراً». كم أود أن ارى، ذات يوم، ناقداً نزيهاً، غير متحيز، يقوم بمقارنة بين مقالات أنسي الحاج في ملحق «النهار» وبين ما كان يكتبه، مثلاً، ادونيس في «لسان الحال». وكم أتساءل: هل يجرؤ أدونيس على إعادة نشر مقالاته المتراكمة في «لسان الحال» في كتاب دون ان يكشف عن حقيقته كديماغوجي يتغوغأ وفق العوام. أنسي الحاج قال كلمته، بوضوح، في الوقت المطلوب، وليس عشرات السنين في ما بعد، أي عندما اصبح الادعاء بكل شيء بضاعة الجميع.
في الحقيقة، ان انسي الحاج استطاع أن ينجز ما لم يستطعه جورج حنين في أربعينيات القرن الماضي. إذ حنين، على عكس الحاج، لم يكتب بالعربية وانما بالفرنسية. لكن كليهما شاعر متميز، وكليهما كاتب مقال صحافي ذي أسلوب جديد لم يعهد من قبل، طبعاً كل منهما بحسب الواقع الذي يكتب فيه واللغة التي يتقنها والمادة التي يتناولها. لكن، كلاهما يتجاوز الثنائيات المميتة، خصوصا ثنائية شرق ـ غرب. إذ كلاهما ينطلق من موقف كوني حقيقي بأن الغرب ليس كموقع جغرافي، وإنما محور لتمردات الروح الانسانية كلها من أجل الحرية والشعر وحق الفرد في أن يكون صوته هو لا صوت سيد ما.
يكفي أن نقوم بمقارنة أسلوبية بين مقالات الحاج الأسبوعية في «ملحق النهار» ومقالات حنين التي كان يكتبها أسبوعياً في الصحافة الفرنسية، حتى نرى كم من تشابه بينهما في تغطيتهما لحدث، لكتاب، لفيلم أو ظاهرة أدبية بلغة ثاقبة ودعابة سوداء. ومثلما اليوم ما ان نقرأ مقالات جورج حنين التي كان يكتبها في خمسينيات القرن الماضي، حتى نشم هواء الحرب الباردة وكأننا في شتائها الرمادي وشمسها المشرقة، فإننا نشعر كذلك، حين نقرأ الجزء الأول من «كلمات كلمات كلمات»، بنبض السيرورة الطبيعية التي كان يمر فيها لبنان: الحرية، حركة المطابع من أجل التنوير، الرقابة بنموذجها الطبيعي وليس الأيديولوجي القمعي كاليوم؛ باختصار: لبنان ماضي الأيام الآتيةّ!
شعر أنسي الحاج ومقالاته في ملحق «النهار» واحد يكمل الآخر. ذلك انه عندما حلت حقبة «مصرع الوضوح»، وانتصر سوء استعمال اللغة، وبينما كان «أولئك» يحصدون الجوائز وينحنون امام تصفيق جمهور الرعاع. قرر أنسي الحاج ان يصامت اللغة؛ أن يمنح كلماته فرصة التأمل والصمت كي تعود اقوى في لحظة الكلام.
صمت انصهر فيه الشعر والنثر خواتم يدمع بها عالماً بلا أخلاق، شظايا بالروح النوفاليسية نفسها، تتوهج في أعالي الروح، ما وراء الأجناس الأدبية والهويات الطائفية.
(عن مجلة نقد)
غير مسبوق
شربل داغر
(شاعر وباحث)
تكاد أن تكون قصيدة أنسي الحاج بداية تامة، غير مسبوقة، طالما أنها مفاجئة، شديدة الاختلاف، مع ما سبقها. الشاعر الذي بدأ بجملة واحدة على سطر: (أخاف)، لم يكن متهيباً أمامها مثل عبادتها الكثر الذين يخشون حتى مداعبتها الخفيفة.
فرداني شعرياً منذ ضربته الأولى، فلا يميل على غيره، بل يقطع معه. قد نجد في قصائده الأولى صلات بشعر نقولا قربان، المجهول والمضيء في الشعر اللبناني الحديث. قد نجد له صلات مخففة بأناقة اللغة عند أمين نخلة، وإن يبتعد عن ريفيتها المتغاوية بنفسها أو بجمالها ساكن. إلا أننا نجد في شعره، بشكل مؤكد، البدء الفرداني، المديني، لما كانت عليه لغة جريدة (النهار)، بوصفها مختبراً وتجلياً للبنانية حديثة متحررة تماماً من لغة الفقهاء والديوانيين. بل هو المتقلب العصبي لهذه اللغة.
ما كتب إلا بنزق، أو باكتناز، بعد أن استرسل لوقت في غنائية (رسولية) لم نعتد عليها لا في بداياته ولا في نبذاته الكثيفة لاحقاً. كتب لنفسه في نوع من العيش في اللغة وبها. إنها تعبيره الوجودي. هذه قوته، وهذا امتناعه عن غيره، أو صعوبة وصوله الى غيره.
لهذا هو مثل كثيرين، قبله وبعده، لم يُعرف عربياً إلا بمقادير محدودة في العقدين الأخيرين، ما يشير الى أن فرادة بعض الشعر اللبناني بقيت سباقة وغريبة، مثل ما في الأيام الآتية.
وهو إن كتب فلقارئ، لا لجمع أو قضية، ولا لتوجيه إرسال أو رسالة، ما جعله غريباً ونادراً.
أنا أحد هؤلاء القراء ولا يسعني إذ يغيب أن أغيب فضله العميم على تجربتي، إذ يعود له الفضل في نشر قصيدتي الأولى في (الملحق) في نهاية صيف 1971: كنت أنتظر ورودها في الصفحة الثانية المخصصة للقراء بعد صفحة الغلاف، فإذا بي أجدها في الصفحات الداخلية (للملحق) مع قصائد ومقالات كتاب معروفين.
لهذا أقول إنه «مكتشفي». هذا ما جعلني أتجنب اللقاء الشخصي به، سواء في بيروت أو في باريس، ثم في بيروت. إذ طلبت دوماً الاحتفاظ بلحظة الامتنان الأولى، الحارة، الدافعة، من قارئ الى من كان يمثل في عينيه، ولا يزال: الشاعر.
المتمرد
لور غريب
(فنانة وصحافية)
أنا أعرف أنسي الحاج منذ الستينات، تعرفت عليه بمجلة شعر. كنا نجتمع معاً نهار الخميس وأنا كنت أصدرت ديواناً شعرياً ولم أجد حماساً من جماعة شعر ما عدا أنسي، على أساس أننا جماعة نكتب بلغة أجنبية.
حتى لما كتب أنسي «لن» يوسف الخال ما كان متحمساً للقصيدة النثرية التي كتبها أنسي، وأنا كنت معجبة جداً به وتفاعلنا معه إيجابياً وهو كان قد وقف الى جانبي حين قال لي يوسف الخال «إن الشعر مش شغلتي».
حين أصدر أنسي الحاج «لن» حدثت ضجة كبيرة في لبنان والعالم العربي، وكانت الضجة أكبر في بيروت كمدينة تكرس الشعر والشعراء.. كان أنسي الحاج ظاهرة، وكان يمثل بالنسبة لنا التمرد على كل شيء. المتمرد على الشعر المقفى وعلى الشعر الجاهلي، كان يشبه الهواء الذي يحض بفضاء آخر مستقل.
كنت معجبة جداً به وكذلك شوقي أبي شقرا وكذلك غالبية الشعراء المنضوين تحت لواء «مجلة شعر». حتى الجماعة الفرنكوفونية كان بالنسبة لهم أنسي الحاج يمثل ظاهرة، ظاهرة الحداثة في الشعر العربي. واستمر أنسي وفتح طريقاً وآخر في الشعر على الرغم من المأخذ والانتقادات على قصيدته النثرية.
وكان أنسي (يضحك) وهو كان يقول «شو في براسو». لم يكن الشكل مهماً كثيراً بالنسبة إليه، على الرغم من أن المفردات التي كان يستخدمها تذكر بأناشيد «الثورة».
علّمنا أنسي من دون أن يعرض أن نعمل مقاربة للخلق الشعري من دون المرور بزواريب القواعد كانت الكلمة بالنسبة إليه أهم بكثير من وقعها على الآخرين. كان أنسي يمشي بخط مباشر نحو فكرته الشعرية عشوائياً ولا يضبط إيقاعها إلا بعد الانتهاء.

ما طلع مثل أنسي الحاج بالقرن العشرين، ربما طلع أشخاص حاولوا أن يعملوا مثله، أن يتقربوا من منهجيته في حياكة القصيدة.

ما كان هم أنسي الحاج أن يكتب قصيدة. كانت القصيدة تخرج ربما غصباً عنه حين كنت أراه أقول له: يا أنسي إنتبه لحالك، لا تبدو مهتماً بنفسك ثيراً؟ وكان يردّ عليّ «أنا مشغول بالتفكير دائماً أخاف إذا كنت سعيداً أن أفقد لغة كتابة الشعر.. كأنه كان ملتزماً قضية المعاناة بالمعنى الوجودي وليس المعنى الواقعي. كان أنسي حتى خارج اليوميات ما عمل يوماً ليستميل أحداً.. كان خارج الشهرة، أبعد منها، كان مقلاً جداً بإطلالاته الشعرية وحتى الإعلامية. كان راهباً صوفياً ليس بالشكل المسيحي وهو مسيحي كبير، بل بمعنى أن قضية مأساته مع الشعر قضية وجودية.

كتب الشعر وكان أبعد منه، أتى كما النيزك.

قبل أنسي الحاج كان شيئاً..

وبعد أنسي الحاج الظاهرة، من الصعب أن تجيء ظاهرة أخرى..

سوف نفتقدك كثيراً..

لشعره

مي منسّى

(روائية وصحافية)

أحببت أنسي الحاج لشعره أولاً، «للرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع» أحببته بكل كلمة يكتبها لكني كنت دائماً أشعر بأنه يتحاشى أن يقترب من الآخر... هل كان خجولاً؟ هل كنتُ أنا من الذين لم يرق له ربما الاقتراب منهم. لم أستطع أن أصادق أنسي وأن أكون قريبة من روحه. اقتربت منه من خلال شعره، من خلال الكلمات النثرية التي كان يكتبها في «النهار» هل كنت أشعر بالغربة عندما استلم الصفحة الثقافية لمدة من الزمن؟ كنت أحب أن أتجادل معه لكنه كان مقفلاً، خجولاً ربما؟ غريباً ربما؟ لم أستطع بصداقتي له أن أبني جسراً بيني وبينه. ظلّ أنسي الحاج هو الكتاب الذي استطعت أن أتآلف معه وأن أدجّنه.

الدمع لا يكفي

علوية صبح

(روائية)

إني أشعر بحزن شديد لغيابه. كأن شيئاً قد رحل معه. بغيابه ليس من ذاكرتي وحسب وإنما في حياتي وجسدي.

أنسي الكبير كإنسان وكشاعر وكصديق لا يمكن أن يرحل فكلماته وحضوره وأناقته وشعره الكبير سوف يبقى معي وآراءه كل ليلة لأنام وأشعر أنه لم يمت أبداً.

نعم أنسي الحاج لم يمت، إنه يعيش وسيبقى حتى بعد أن نرحل.

أنا حزينة جداً ولا أملك أمام حزني سوى الشعور بالعجز، لأنني لم أستطع أن أودعه قبل رحيله. الدمع على غيابه لا يكفي ولا شيء يعوض غيابه مطلقاً.

لبنان والثقافة العربية خسرت شاعراً كبيراً وإنساناً عظيماً إن أنسي يسكن بنا منذ أن بدأنا القراءة وعلّمنا بكتابته كيف يمكن أن نكون شعراء في مشاعرنا ومن حواسنا وفي لغتنا وفي كل حياتنا. كان المعلم والحب والتمرد والحرية والصوت الذي لم يغب أبداً.

حزني لا يمكن أن أترجمه الى كلمات، ولا أستطيع فعل ذلك... إني عاجزة عن ترجمة حزني الى كلمات. فقط أتذكر الآن ما قاله: «كلما أحببتهم، أحببت أحداً سقط من الكتاب».

هذا هو أنسي الذي أحببت

محمد علي شمس الدين

(شاعر)

العالم أكثر وحشة من دون الشعراء.

انسي الحاج كتب شعراً خاصاً لم يكن مثل غيره ممن سبقوه وان كان بعض الذين لحقوا به تأثروا به. برأيي اهم ما فيه هذا الشاعر الذي احببته عن بعد فأنا لم اتكلم معه سوى كلمات قليلة عرفته يملؤه القلق والخوف والرغبة في المفارقة. انه حلم هذه المغامرة الخطيرة في اللغة ضد اللغة وفي الشعر ضد الشعر وكان بمثابة علامة كبيرة لمسألة البحث عن الذت من خلال الكلمات، وفي رأيي اكمل مع اضافة العصر والحداثة وكل توتراتهما ما كان جبران بالانكليزية قد اثاره في كتابه «رمل وزبد» ومضة القلق المكثفة او برق لخوف. هذا هو انسي الذي أحببته والآن الى القصيدة.

الفاجعة

شوقي بزيع

(شاعر)

في هذه اللحظة لا يمكن اي لغة ان تكون جديرة بفاجعة مثل هذه الفاجعة وان تكون قادرة على حمل هذا الالم الذي اشعر به الآن والذي يشبه طعمه طعم الرماد في الفن، قد يكون الصمت اكثر ملاءمة للموقف وهو وحده القادر على تجسيد لحظة تلقي الخبر. مثل هذا الرحيل لا يليق به سوى الخشوع وان كان لا بد من لغة فقد تكون اقرب الى صرخة الاحتجاج او علامة التعجب او تكرار كلمة «لماذا» الى ما لا نهاية.

لحظة صمت

جرجس شكري

(شاعر مصري)

انا حزين جداً. كان انسي مريضاً، لكني لم أتخيل ان اسمع هذا الخبر. مجرد ان تناهى الي هذا الخبر، دار في رأسي شريط سينمائي حول لقائي بأنسي الحاج في بيروت في مؤتمر قصيدة النثر. ظللت صامتاً استرجع هذه المشاهد كيف تحدثت معه للمرة الاولى. في هذه اللحظات نصبح اغبياء، لا نستطيع الكلام، نصاب بالشلل. حتى حين اتحدث اتخيل ان شخصاً آخر يتحدث. يجب علي ان اصمت في هذه اللحظة.

آخ!

عصام العبدالله

(شاعر)

يخرج الكلام بمثل هذه الحالات وكأنه هو المريض لا يليق بكتّاب وشعراء كأنسي الحاج، لا يليق بهم الموت. والارجح سيعاندونه ويظلون احياء في كتبهم والرفوف وفي صدور الاصدقاء الذين يتذكرون موهبتهم بملاك فاتن.

انسي الحاج معلم وعصفور وغزال. وانا من المبكر ان اشهد عليه الآن. انا ارمي عليه وردة الكلام، وفيما بعد سيكون لي ولمثلي كلام كثير عن هذه القامة التي تضيء عالم الكتابة وعالم الشعر.

عندما تودع الطيور مهاجعها لا اظن انها تعود وتستهدي عليه. اخاف ان لا تستهدي على انسي الحاج وهو في غيابه المبهر.

سلام على كل قصيدة

موسى حوامدة

(شاعر اردني)

سلام على كل قصيدة اكبر من الموت، وعلى كل شاعر منح قلبه للخسارة. كان انسي الحاج متقدماً على العرين جاء مبكراً سباقاً لعصره بعقود طويلة. تم الترويج لشعراء كثيرين غيره، بينما كان هو اول وأحق. سبق عصره في الرؤية التي كانت موجودة لديه. قصيدة النثر التي كتبها كانت انجيلا لقصيدة النثر العربية. الخسارة كبيرة برحيله للادب والثقافة العربية والانسانية. لم يخرج انسي الحاج عن التفعيلة فقط بل خرج عن انماط التفكير التقليدي. كان صاحب رؤية وبنبوءة مبكرة. نعزي كل الشعراء برحيل شاعر كبير مثل انسي الحاج. لم يكن يريد من الشعر سلطة ولا جاهاً الا روح الشعر. كان يبتغي من الشعر تحرير الانسان العربي من سلطة التقاليد والمفاهيم البالية. لم يكتب قصيدة فقط بل رؤية عربية حضارية.

خبر صادم

سيف الرحبي

(شاعر عماني)

خبر مفجع وكلما يرحل شاعر بحجم انسي الحاج يقيناً ان العالم ينقصه الكثير من الجمال والشفافية لصالح البشاعة والقبح والطائفية. ومنذ فترة اتصل بي الصديق عبده وازن واخبرني أن انسي في غيبوبة. حزنت كثيراً لذلك، والآن هذا الخبر عن غيابه النهائي، على الاقل جسدياً وليس روحياً وشعرياً، خبر صادم بالتأكيد. انسي الحاج «المحب والكارة العميق» حسب تعبيره، وجامع شمل النيابيع. الرجل منذ مطلع الستينات قاوم كل ما هو نمطي وسائد وموروث سيئ لصالح التحديث والتجديد والديموقراطية والانفتاح الثقافي والحضاري والروحي. كلنا حزين لغيابه وغياب امثاله عن هذا العالم الذي ينحدر سريعاً نحو قعر الهاوية.


كأنما الأرض بلا سماء

شارل شهوان (فنان وشاعر)

الأرض نفسها وكأنها بلا سماء

بيد أنها غيمة بحجم عينيك

هنالك فوق الجبال

مثل ارتعاشة، صرخة

الهواء لا يهتزّ

شجرة نشيج وزفرات

إن كان الحب لا يفشل أبداً

سوف يصحبك الى ما بعد الموت

اليأس جوهري

حين يختفي لون الشعر والعينين

ثمة ورود تطلق أحمرها

من لحظة أغمضت

سيكون العشب بين يديك

لن تتبدد كأي دخان

ستبقى الحروف ذهبية زاهرة

لست وحيداً في هذا الكوكب الميت

هذه النهاية ستطول.


إنها صرخة


غسان تويني

ليس أدل على وحدة تفكير، بل نظرة أنسي الحاج، من المقارنة، عبر ثلاث وعشرين سنة، بين هذا التوجه الى عاصي الرحباني ورد أنسي الحاج على رسالة بعث بها اليه المفكر السعودي الثائر عبد الله القصيمي عن لبنان، قال فيها:

ولبنان الذي جعلوه لا طعم ولا لون، والذي كنا جلسناه على هوى حبنا، فأفقنا لنجد أنفسنا دخلاء..»

انها صرخة.. لأن التاريخ، متى يكتب شعراً، فصرخة يكون، لا انشاء.. غضباً كالفرح... براءة وتمرداً.

جمال «كلمات»، كثباتها، انها صورة الزمن الذي يمر متقلباً، والذات دائمة. فيكون للتاريخ فيها بعد مزدوج: الثبات والتجدد، الصورة والحلم. وتكون مرآة الواقع هي، في آن معاً، مرآة الثورة عليه، فاذا عكست «كلمات» الروح الاجتماعي، فعن طريق الثورة عليه ورفض المجتمع الذي يعبر عنه، بدل تكريس هذا المجتمع بمحاولة تصويره عبر كتابة تجميلية أو حتى «انتقادية».

هكذا، تجيء كل سنة بداية جديدة لما سبق ان بدأه الكاتب ويئس منه ثم عاد اليه ثم مله ثم عاد اليه بمزيد من القوة: الأمل بالتغيير، تغير الانسان والعالم، لا بل الايمان بتغيير الحياة «نحو الجمال والسعادة».

ولنستعرض بعض هذه السنوات.

1965 اعلنها انسي الحاج ثورة على «هذه المعيشة الحقيرة التي يحياها الشاعر والفنان والمفكر في لبنان».. ثم اصبحت ثورة «لتغيير النظام والمجتمع» من أجل «الكتاب والفنانين ومن اجل كل فئات الشعب».

وتتخطى الثورة مجرد التحريض على الثورة لتصبح اعلانا للثورة يساوي في الادانة اليمين باليسار:

«يسارهم كذاب ويمينهم كذاب.. منذ ربع قرن وهم يجعلون من لبنان جمعية للصوص الاحتكار والمنافسة.. منذ ربع قرن وهم، رأسماليين وطائفيين واقطاعيين وعائليين، يستعبدوننا روحا وجسداً، يفرضون الخوة ويزورون الارادة، يتاجرون بالحشيش ويتاجرون بالسلاح ويتاجرون بالرقيق الابيض... هؤلاء هم اسرائيل».

بعد هذه الثورة التي توقفت بهدنة «أعلنها الذين لم يعلنوا الحرب»، طرح أنسي الحاج مشكلة الشعب نفسه:

والمشكلة هي وقوع الشعب في براثن الفخ الطائفي. لذلك، التحريض يجب ان يكون تحريض الشعب اللبناني على نفسه، والنقل يجب ان يكون نقل هذا الشعب من التباغض الطائفي والديني الى بغض تاريخه الأسود.. وفي سبيل بعث ازمة الضمير هذه نحن بحاجة الى مفكرين وفنانين وكتاب متمردين وثوار لا الى مفكرين وفنانين وكتاب قانعين بالامر الواقع. لهذا قلت اننا لا ننتظر شيئاً الا من العنف».

ونعود نتساءل: الى م ادت هذه الثورة؟

الى خيبة أمل. خيبة امل بالواقع اللبناني، فكرا وسياسة. وفي غضبته وقرفه بعد طرد عبد الله القصيمي من لبنان يكتب:
«نحن ابناء بلد بلا قضية. نحن مواطنو الاهدار والسخافة. نعيش في محرقة، نأكل بعضنا البعض، تافهون، منافقون، لصوص، نحن بنك، وكازينو، وشركة طيران، وسمسرة، وعمولة، وتهريب.. ليس في لبنان شيء حقيقي. حتى المجانين لم اعد اصدق انهم حقا مجانين. حتى الموتى يخيل الي انهم يموتون بشكل مستعار».

وكأن الخيبات اللبنانية لم تكن كافية، فجاء «حزيران 1967» الذي سماه عبد الناصر «نكسة». وتحت عنوان «هزيمة حضارية لا عسكرية» كتب انسي الحاج:

«العلة في الداخل»، داخل الروح العربي، داخل التراث والفكر، وما لم نعالجها بالصورة عليها فسنظل مهزومين»..
شاركه

عن ABDOUHAKKI

هذا النص هو مثال لنص يمكن ان يستبدل في نفس المساحة ايضا يمكنك زيارة مدونة مدون محترف لمزيد من تحميل قوالب بلوجر.
    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات :

إرسال تعليق

أدب رقمي

حصريات

تكنلوجيا

بالصوت وصورة

سلايدر شو

.

صور فلكر

اخر الاخبار

:إبداع

عالم حواء

عن القالب

صفحتنا

اخر الاخبار