رواية الطاهر بن جلون الأخيرة "السعادة الزوجية"
الصادرة عن دار "غاليمار" سنة 2013، تعتبر أكثر من رواية، ذلك أنها، رغم
ضروب النقد اللاذع الذي كتب عنها، بقيت رواية مجدّدة في سياق تجربة ابن جلون نفسه،
وفي سياق الرواية المغربية، وخاصة منها تلك المكتوبة باللغة الفرنسية.
تحكي "السعادة الزوجية" عن رسّام بلغ
قمة الشهرة والنجاح: مال كثير، وعشيقات في كل بلد، ومَعارض في أكبر وأشهر دور العرض
والأروقة العالمية، ووكيل أعمال أميركي. لكن الروح انكسرت فجأة بعد عطب أصاب الجسد.
فأصبح هذا الرسام الذي كان كثير الحركة غير قادر على مغادرة سريره بسبب جلطة دماغية
مفاجئة حولته إلى رجل عاجز. وهكذا يودّع جلوسه على قمة الشهرة، ويودّع حياته اللامعة
التي كانت نواتها الصلبة هي التّرحال والأسفار والحرية. وهو مقعد بدأ الرسام يسترجع
ويجتر حياته السابقة، عبر تأملات وتذكرات واسترجاعات.
مواجهة ذاكرتين
يعيش الرسام فترة تذكر تحليلي يروم منه استخلاص
النتيجة عبر العبور من بوابة الاستدلال، كما يفعل البلاغيون غالبا. والنتيجة التي بنتها
ذات الرسام العاجزة هي أن زوجته كانت هي المسؤولة عن إصابته بالجلطة الدماغية، عن هذا
الانهيار العاصف لحياة فنية غنية وجسد كان حرا وقويا بغرائزه.
للهروب من هذا الانهيار، قرر الرسام كتابة مخطوط
يحكي عن جحيم حياته الزوجية. وبذلك قام بوضع تحليل ذاتي يساعده على العثور على الشجاعة
الكافية للإفلات من علاقته الزوجية التدميرية. غير أن زوجته اكتشفت المخطوط المخبوء
في صندوق موجود بالمرسم، فقرأته وقررت تقديم رؤيتها المغايرة لما رواه زوجها المقعد
والفاقد للذاكرة ولزوايا نظر معقولة لحياتهما على مر السنين. فكانت صيغتها لما حدث
بمثابة رد تفصيلي على كل ما جاء في صيغة زوجها.
وبذلك انقسمت الرواية إلى قسمين، أما الأول فهو
ملفوظ الرسام، ويحمل عنوان "الرجل الذي كان يحب النساء كثيرا"، فيما جاء
القسم الثاني، الذي هو رواية الزوجة للأحداث والوقائع، تحت عنوان"جواب على
"الرجل الذي كان يحب النساء كثيرا". بلغ القسم الأول 250 صفحة، أما الثاني
فلم يتجاوز مائة صفحة.
بن جلول يبحر للبحث عن شكل التخييل وشقاء العلاقة
جحيم خاص
لا بد لقارئ الرواية أن يطرح هذا السؤال: ما هي
السعادة الزوجية في مجتمع صار الزواج فيه مؤسسة قائمة الذات، ولها نتائج مختلفة ومتعددة؟
في مجتمع غالبا ما يكون فيه الزواج ليس شيئا آخر غير واجهة ووهم نعيش داخله ونصرّ عليه.
هذا ما تحكيه رواية "السعادة الزوجية" عبر المزج بين صيغتين لحياة واحدة.
الصيغة الأولى يحمّل فيها الرسام زوجته مسؤولية شلله التام وانهياره الختامي، والصيغة
الثانية تقدم فيها الزوجة كل الاستدلالات الكافية على أن زوجها وحده المسؤول عن مآله.
هذا المآل الذي ترسمه الرواية بنوع من الاستدلال
رسما مؤثرا: تحط على أنف الرسام ذبابة متوسطة الحجم، سوداء، رمادية، خفيفة. تشرع في
تنظيف نفسها على أنف هذا الرجل العاجز تماما عن صدها عنه. ذبابة لا تزن شيئا لكنها
تزعج. هذه هي رؤية الرواية الخاصة: العجز أمام أضعف المخلوقات. وهذا العجز له تاريخ
وتدرجات ومراحل في العديد من مدن العالم: الدار البيضاء، باريس، مراكش، عبر أزمنة مختلفة
امتدت من 1993 إلى 2003، سنة العجز. وقد وفّق ابن جلون كثيرا في رسم مسار حياة الرسام
بواسطة شكل اليوميات. فكل فصل هو يومية خاصة ومذكرة كتب فيها الرسام أحداثا كان لها
بالغ التأثير عليه، وأشخاصا وأمكنة طبعوا الجسد والروح.
كما وضع في بداية كل فصل جملة عن الزواج، أو عن
العلاقة المشتركة بين رجل وامرأة، من روايات وأفلام وأغان. فترافق القارئ أسماء أعلام
مثل: انغمار برغمان، ساشا غيتري صاحبة رواية "هبني عينيك"، فريتز لانغ، كريستيان
جاك، لويس بونويل، مارسيل كارني صاحب فكرة أن الحياة والأحلام سيان. كل تلك الاستشهادات
التي تُستهل بها الفصول هي فلسفة صغيرة، وسريعة، عن الإنسان المتشبث بالعيش داخل جحيمه
الخاص، لذلك لم يجد الإنسان أسلوبا أفضل من إبقاء العديد من الحقائق في الظل. ففي اللحظة
التي تطلب فيها إحدى شخصيات "بيرغمان" من حبيبها أن يمارس معها الجنس، يفضل
هو حزم حقائبه. وكأن سارد الرواية يريد أن يؤكد أن الشقاء الزوجي هو القاسم المشترك
بين كل المتزوجين.
لابد لقارئ رواية "السعادة الزوجية" أن
يذهب في اتجاهات عدة، فهو قارئ لتخييل، وأيضا قارئ لشكل كتابي بدأ يترسخ في الكتابة
الرواية العربية، هو شكل اليوميات. فهذا الشكل لا يراهن على قارئ لأنه حميمي وخاص ويبقى
سجين الأدراج.
لكن التخييل الروائي، بما فيه من قوة التجربة الإنسانية
الشمولية، فهو خطاب يراهن على القارئ، بل إن القارئ هو نواته الصلبة. ونلاحظ في الفترة
الأخيرة هيمنة "شكل الأيام" على الرواية العربية، فصنع الله إبراهيم كتب
روايته "العمامة والقبعة" وفق هذا الشكل الذي يتيح إمكانية التقطيع والانتقال
ومراعاة عنصر التاريخ. فكل يوم يختلف عن يوم آخر. فالحياة خلقت في يوم، والموت خلق
في اليوم الموالي.
أسرار الروح
"فوجئ الرسام عندما لاحظ أن زوجته، منذ أن
جاء ليعيش في الدار البيضاء، غيرت عاداتها. بدأت تغيب كثيرا، وتعود في منتصف الليل،
وتكثر من الشرب وتقول إنها كانت رفقة صديقاتها "البنات". كانت ترافق عصابة
من النساء المطلقات، الساخطات، اللواتي أصبحن نسوانيات في آخر العمر، ووجدن أنفسهن
في بيت مشعوذة بشاعة جسدها تفضح سواد روحها. صغيرة، مدوّرة، بشعر لبؤة، عيناها صغيرتان
وعميقتان، وجبينها الصغير هو، حسب طبيب مختص بالمظاهر، نذير شؤم. كانت تكذب، وتدعي
أنها هيبية سابقة ارتبطت بعشاق من المشاهير، مغنّون، موسيقيون وحتى أحد الممثلين الكبار
الذي تحمل معها صورة له التقطت في مدينة قالت إنها "لوس أنجلوس"، في حين
أنه لا شك ديكور في "القصبة" بمدينة "زاكورة".
قالت إنها أقامت بالهند عند أستاذ فتح عينيها على
أسرار الروح؛ وتعلمت عنه مصدر كل الطاقات، الإيجابية منها والسلبية، و أكدت أن الموجات
التي نرسلها تستغرق بعض الوقت كي تتنقل، وبنفس الطريقة استقبلت حديثا موجات أمها التي
توفيت ودفنت قبل عشر سنوات.
باختصار، لقد كانت تلعب دور الصوفية بكلمات لا تعرف
معانيها الدقيقة لكنها تملك القناعة لتؤثر على عقول مستعدة لمتابعتها والخضوع لها وسط
هذه الهذيانات والتأثيرات. كانت تعيد على مسامعهم الخطابات النسوية للستينات بصلصة
هي خليط من الصوفية والأسطورة والشرق والخديعة. كل ذلك داخل دخان من بخور "صنع
في الصين" من ذلك النوع الذي نجده عند محلات العطارة الشعبية الموجودة في حي
"المعاريف". وكانت تدّعي أن أستاذها وشيخها الروحي الهندي أرسل إليها هذه
الأعشاب بعد جنيها من حديقته وتجفيفها في قاعة تأملاته. كانت تطلق عليها أسماء تقتبسها
من عناوين أفلام "بوليوود" تباع في أقراص مدمجة مقرصنة قرب سوق الخضار بـ"الجوطية".
0 التعليقات :
إرسال تعليق