دارت في المغرب في الآونة الأخيرة نقاشات حول الدعوة إلى استخدام اللغة العربية الدراجة بدل الفصحى في التعليم. وجرت في هذا السياق مناظرة تلفزيونية بين مطلق الدعوة، نور الدين عيوش، والمؤرخ المغربي، عبد الله العروي.
النقاشات حول الموضوع كانت ساخنة، وأستهدف من الإشارة إليها توسيع دائرة الضوء لتشمل جوانب مختلفة من المواقف تجاه اللغة العربية التي تبرز بقوة من حين لآخر.
في دراستي الابتدائية وما بعدها، لم تكن الفصحى اللغة التي يستخدمها الأساتذة في التدريس، ولا حتى في دورس تعليم النحو.
الأساتذة الذين علموني في مختلف المراحل قبل الجامعة كانوا يتحدثون باللغة الدارجة (العامية/المحكية)، إلا إذا تطلب السياق، وخاصة في دروس اللغة العربية من نحو وخلافه، ودروس التربية الإسلامية. أما في غير ذلك من مواد، كالاجتماعيات والرياضيات والعلوم، فالأستاذ كان يستخدم اللغة المحكية.
كانت دروس اللغة العربية تشمل ما يسمى الإنشاء أو التعبير، أي كتابة نصوص حول موضوع يحدده الأستاذ أو يختاره الطالب، وهذه كانت تكتب بعربية فصحى، وتكون المقدرة على الكتابة بها على درجة التمكن من قواعد النحو والإملاء.
تكاد تجمع الآراء على تراجع مستويات التعليم في العالم العربي. الأسباب كثيرة، فمن غير الممكن أن تعاني الدول العربية من مشكلات اقتصادية واجتماعية وسياسية، وفي الوقت نفسه يبقى قطاع التعليم في منأى عن ذلك.
ما كنا نتقنه من قواعد النحو والإملاء بعد عشر سنوات من التعليم لم يعد يتقنه الكثير من الشابات والشباب في الجامعات، فقد كان هناك تركيز على قواعد الإملاء والنحو ووضوح الخط.
زاد الطين بلة ظهور الحاسوب والإنترنت، وغياب اللغة العربية منهما في البداية. ولذا تم طوعا استبدال الحروف العربية باللاتينية. ومع أنه تم الاهتمام باللغات الأخرى وصار من الممكن الكتابة بأي لغة باستخدام الحاسوب، إلا أن الحروف اللاتينية لا تزال تستخدم في كثير من الأحيان.
تبين بعد انتشار الإنترنت مدى ضعف مستويات الكتابة بلغة عربية سليمة، وتبين وجود أعداد كبيرة ممن يكتبون "أحسنتي" أو "أبدعتي" بدل أحسنت وأبدعت عند استخدام صيغة المخاطب المؤنث.
ولكن الضعف في إتقان اللغة العربية ليس مقتصرا على الشابات والشبان، جيل الحاسوب والإنترنت، فقد شاهدنا على شاشات التلفزيون مسؤولين وسياسيين وقضاة لا يحسنون قراءة نصوص كتبت لهم، ومن المؤكد بالتالي أن مقدرتهم الكتابية أسوأ.
وهناك أيضا انتشار للمزج بين العربية والإنجليزية في الحديث، إما بحكم تلقي التعليم بلغة أجنبية، أو بحكم التكنولوجيا التي فرضت استخدام بعض المفردات.
ثمة من تنبأ باندثار اللغة العربية، وقد كتبت عن ذلك من قبل، واختلف مع هذا الرأي لوجود أدلة عديدة تناقضه. وهناك رأي آخر يحمّل اللغة العربية المسؤولية عن كل ما في العالم العربي من مشكلات، وهذا رأي مبني على وهم، فلا اللغة الإنجليزية ولا الفرنسية ولا غيرهما ستجعل متعلمها إنسانا "متحضرا" أكثر من الذي يتكلم العربية.
لو بحث الإنسان عن أسباب عملية لاختيار العربية الفصحى لوجد أسبابا وجيهة. وثمة سبب عملي أود الإشارة إليه، وهو النظر إلى اللغة العربية كلغة مشتركة (lingua franca) في العالم العربي، مثلما الإنجليزية عالميا.
فيما يتعلق بالنشر تحديدا، من يكتب بالإنجليزية يمكن بيع كتابه في الدول الناطقة بها. أما من يكتب بالدارجة في دولة عربية ما، فلن يكون للكتاب سوق خارجها. وسوق كل دولة عربية على حدة صغيرة، وخاصة بالمقارنة مع السوق المكونة من أسواق الدول العربية كلها. ولذا فان اختيار الكتابة بالدارجة تنطوي على التضحية بأعداد كبيرة من القارئات والقراء المحتملين في باقي الدول العربية.
لا شك في أن النقاشات حول اللغة العربية، قديمها وحديثها، ليست بريئة كلها أو دائما. وفي الوقت نفسه، العصبيات القومية لا تحل مشكلة بل تعقدها.
واعتقد أن الواقع سيظل مزيجا من الظواهر التي أشرت إليها أعلاه، فسوف تبقى اللغة العربية والمحكية بصورها المختلفة، والأجنبية كذلك.
ولكن هذه ليست دعوة لعدم محاولة تغيير الواقع. على سبيل المثال، صدرت "عود الند" للتشجيع على الكتابة بلغة عربية سليمة. تظهر العاميات في بعض النصوص في سياق حديث شخصيات. عدا ذلك، تستخدم في المجلة عربية فصحى معاصرة. وهي الآن المجلة التي ينشر فيها ويقرأها محبو اللغة العربية في كل مكان، وهم كثر.
مع أطيب التحيات
عدلي الهواري
النقاشات حول الموضوع كانت ساخنة، وأستهدف من الإشارة إليها توسيع دائرة الضوء لتشمل جوانب مختلفة من المواقف تجاه اللغة العربية التي تبرز بقوة من حين لآخر.
في دراستي الابتدائية وما بعدها، لم تكن الفصحى اللغة التي يستخدمها الأساتذة في التدريس، ولا حتى في دورس تعليم النحو.
الأساتذة الذين علموني في مختلف المراحل قبل الجامعة كانوا يتحدثون باللغة الدارجة (العامية/المحكية)، إلا إذا تطلب السياق، وخاصة في دروس اللغة العربية من نحو وخلافه، ودروس التربية الإسلامية. أما في غير ذلك من مواد، كالاجتماعيات والرياضيات والعلوم، فالأستاذ كان يستخدم اللغة المحكية.
كانت دروس اللغة العربية تشمل ما يسمى الإنشاء أو التعبير، أي كتابة نصوص حول موضوع يحدده الأستاذ أو يختاره الطالب، وهذه كانت تكتب بعربية فصحى، وتكون المقدرة على الكتابة بها على درجة التمكن من قواعد النحو والإملاء.
تكاد تجمع الآراء على تراجع مستويات التعليم في العالم العربي. الأسباب كثيرة، فمن غير الممكن أن تعاني الدول العربية من مشكلات اقتصادية واجتماعية وسياسية، وفي الوقت نفسه يبقى قطاع التعليم في منأى عن ذلك.
ما كنا نتقنه من قواعد النحو والإملاء بعد عشر سنوات من التعليم لم يعد يتقنه الكثير من الشابات والشباب في الجامعات، فقد كان هناك تركيز على قواعد الإملاء والنحو ووضوح الخط.
زاد الطين بلة ظهور الحاسوب والإنترنت، وغياب اللغة العربية منهما في البداية. ولذا تم طوعا استبدال الحروف العربية باللاتينية. ومع أنه تم الاهتمام باللغات الأخرى وصار من الممكن الكتابة بأي لغة باستخدام الحاسوب، إلا أن الحروف اللاتينية لا تزال تستخدم في كثير من الأحيان.
تبين بعد انتشار الإنترنت مدى ضعف مستويات الكتابة بلغة عربية سليمة، وتبين وجود أعداد كبيرة ممن يكتبون "أحسنتي" أو "أبدعتي" بدل أحسنت وأبدعت عند استخدام صيغة المخاطب المؤنث.
ولكن الضعف في إتقان اللغة العربية ليس مقتصرا على الشابات والشبان، جيل الحاسوب والإنترنت، فقد شاهدنا على شاشات التلفزيون مسؤولين وسياسيين وقضاة لا يحسنون قراءة نصوص كتبت لهم، ومن المؤكد بالتالي أن مقدرتهم الكتابية أسوأ.
وهناك أيضا انتشار للمزج بين العربية والإنجليزية في الحديث، إما بحكم تلقي التعليم بلغة أجنبية، أو بحكم التكنولوجيا التي فرضت استخدام بعض المفردات.
ثمة من تنبأ باندثار اللغة العربية، وقد كتبت عن ذلك من قبل، واختلف مع هذا الرأي لوجود أدلة عديدة تناقضه. وهناك رأي آخر يحمّل اللغة العربية المسؤولية عن كل ما في العالم العربي من مشكلات، وهذا رأي مبني على وهم، فلا اللغة الإنجليزية ولا الفرنسية ولا غيرهما ستجعل متعلمها إنسانا "متحضرا" أكثر من الذي يتكلم العربية.
لو بحث الإنسان عن أسباب عملية لاختيار العربية الفصحى لوجد أسبابا وجيهة. وثمة سبب عملي أود الإشارة إليه، وهو النظر إلى اللغة العربية كلغة مشتركة (lingua franca) في العالم العربي، مثلما الإنجليزية عالميا.
فيما يتعلق بالنشر تحديدا، من يكتب بالإنجليزية يمكن بيع كتابه في الدول الناطقة بها. أما من يكتب بالدارجة في دولة عربية ما، فلن يكون للكتاب سوق خارجها. وسوق كل دولة عربية على حدة صغيرة، وخاصة بالمقارنة مع السوق المكونة من أسواق الدول العربية كلها. ولذا فان اختيار الكتابة بالدارجة تنطوي على التضحية بأعداد كبيرة من القارئات والقراء المحتملين في باقي الدول العربية.
لا شك في أن النقاشات حول اللغة العربية، قديمها وحديثها، ليست بريئة كلها أو دائما. وفي الوقت نفسه، العصبيات القومية لا تحل مشكلة بل تعقدها.
واعتقد أن الواقع سيظل مزيجا من الظواهر التي أشرت إليها أعلاه، فسوف تبقى اللغة العربية والمحكية بصورها المختلفة، والأجنبية كذلك.
ولكن هذه ليست دعوة لعدم محاولة تغيير الواقع. على سبيل المثال، صدرت "عود الند" للتشجيع على الكتابة بلغة عربية سليمة. تظهر العاميات في بعض النصوص في سياق حديث شخصيات. عدا ذلك، تستخدم في المجلة عربية فصحى معاصرة. وهي الآن المجلة التي ينشر فيها ويقرأها محبو اللغة العربية في كل مكان، وهم كثر.
مع أطيب التحيات
عدلي الهواري
ملاحظة: يوجد ملف عن اللغة العربية ضمن العدد 300 من مجلة "أفكار" الصادرة عن وزارة الثقافة الأردنية في كانون الثاني/يناير 2014. يمكن تحميل العدد بصيغة بي دي اف من موقع الوزارة على الإنترنت.
0 التعليقات :
إرسال تعليق