قراءة نقدية للمجموعة القصصية خيوط متشابكة للقاص محمد محقق :د مسلك ميمون

قراءة نقدية للمجموعة القصصية خيوط متشابكة للقاص محمد محقق :د مسلك ميمون
خيوط متشابكة " مجموعة قصصية للقاص محمد محقق ،تضم خمسيــــن نصاً قصيراً جداً ، تتوزع بين خمس و عشرين (ق ق ج )، و خمس و عشرين شــــذرة هل جاء ذلك التصنيف محض مصادفة؟ أم هو قرار من المؤلف ؟ عموماً، لا نجد على الغلاف إلا : (قصص قصيرة جداً) هل نفهم من ذلك اعتبار المؤلف الشّذرات الخمس و العشرين قصصا قصيرة جداً ؟ تلك أسئلة نثيرها درءاً لكلّ التباس، أو سوء فهم،علماً أنّ الفرق بَيّنٌ بيْن الشّذرة و (ق ق ج). و لا أجدهما يتفقان إلا في نفورهما من السّطحية و السّطحيين .
المجموعة من الحجم المتوسط، في ست و خمسين صفحة ، تزين الغلاف لوحة للأستاذ نورالدين محقق،عبارة عن أشكال متلازمة، تعبر عن رجال بعباءات: رماديتان ، و خضروتان ، و بنيتان، خلفهم فضاء بنفسجي،و يؤطر اللّوحة اللّون البني الدّاكن الفاتح . عنوان المجموعة كُتب بشكل عمودي يوازي وقفة الرجال السّت ، و في الوجه الثاني من الغلاف صورة المؤلف تعلو نفس اللّوحة السّابقة بشكل باهت ،عليها كلمة مقتضبة للقاص عبد الله المتقي. طبعت المجموعة في مطبعة التنوخي بالرباط ، سنة2011   .
  "خيوط متشابكة " كعنوان و نص مواز، جاء حاملا أبعاد دلالات مختلفة،لا يمكن حصرها في شيء معين،علماً أن العنوان لم يكن يخصّ قصّة أو شذرة في المجموعة، الشيء الذي جعله ينفتح على سعة التّأويل، و رحابة التّحليل، و دواعي التّخمين ،  من خلال سميائية العنونة Titrologie...إذ يكفي أن نعلم أنّ كبّة الخيط إذا ضاع رأسها بين اللفات ، نصاب بضيق و حيرة ، و اضطراب و انفعال.. علماً أنّ المسألة صعبة،و لا يمكن حلّها بسهولة ، بل لا بدّ من عناء و مشقّة، و صبر أيوبي لا محالة .
   ال (ق ق ج) عند القاص محمد محقق،ضئيلة الحجم ، معدودة الكلمات، قصيرة الجمل، تعتمد المعاني الإيحائية ، في تتابع ، و تسريع، و تبئير..مسترشدة بقولة فيثاغورس " لا تقل القليل بكلمات كثيرة ، بل الكثير بكلمات قليلة " و هي في ذلك أنواع :
1 ــ قصة الحالـــة :
أو ذات الحال  Sujet d’étatو نعني بها اهتمام السّارد بوضع أو حالة البطل دون غيرها . إذ يصبح ذلك هو الغاية ، و بــؤرة الاهتمام ، و مــوضوع النص ، و بدايته و منتهاه ، و قد بلغ هذا الصّنف من التّخييل أهمية كبرى في الّنّقد الحديث ، حتّى أنّ بعض النّقاد يربط الهدف من القصّة بخلق إحساس بالحالة لا قول المعنى . و قصّـــة الحالة اعتمدتها مجموعة " خيوط متشابكة " كالذي نجده في نص " اقتراض":» دخل دوامة الاقتراض..باسماً..معتدل القامة ..خرج شاحب اللّون ،مقوّس الظّهر .«ص8و من ذلك نجد أيضاً نص " انتقال " ص10و " حيرة " ص12 و "حياة " ص18 و " المشوار " ص19 و "هجرة " ص52
2 ــ قصّة المفـاجـأة :
 و تُعرف بذلك نسبة للقفلة غير المنتظرة ، التي تأتي بمفاجــأة غير متوقعة ، و لربّما لا تخطر على بال المتلقي، فتغير كلّ استنتاجاته ، بل تجعله يعيد قراءة ما قرأه آنفاً ، و يربط بين جمل النّص، و دلالة القفلة المفاجئة ، و هــذا النّــوع كثير في ال  ( ق ق ج ) لما يخلقه من تنشيط ذهني ، و تنبه فكري، و متعة قرائية ..لما يأتي به غير المنتظر من الكلام Inattendus du parole  أي الخـــوض في مقـــاربة داخلية بنيويـــــــة  ، بمعنى اعتمــاد مبدأ المحايثـــــة ، و التّأطيـــر الخارجي ( البرّاني ) أي الانطـــلاق من خطــاب   ( الأكسيولوجيا ) إلى البنيات السّردية الثّاوية خلف المادة الحكائية  . كالذي نجده في نص " التائه " : » اوصدت قلبها خلفه .. تــاه في دروبه بدون هدف ، تعب حــذاؤه ، و في منتصف الطريق ، أيقظته رنات هاتفها الخلــوي .«ص9 و من ذلك أيضاً "حل " ص38 و " ضيق أفق " ص40 و " دلال "ص42 و "سراب " ص 46 و " وخز الذّكرى " ص 47
3 ــ القصّة الغرائبية Instinctif:
  و هي كما يدلّ عليها العنوان،  قصة تتّســم بالغرابة سواء في أسلوبها و بنائها ، أو دلالتها ممّا يحعل المتلقي أمام تشكّل تخيلي غريب و غير معتاد ، و مفارقة مستفزة ، و انبثاق توتر درامي، و تأرجح بين الواقعية و الشّاعريـة و الرّمزية المقنعة..فيتحــد المستويــان الموضوعــاتي والتّقني في سبيل ديناميــة سردية فانتاستيكية كالذي نجده في السّرد الحلميLa narration onirique  في نص "شخصية ":  » راى في منامه أنه كان بالف وجه.. في الصباح ، كان ورقة في مهب الرّيح !«ص13
4 ــ قصة التنـاقض :
    و نعني بها النّص السّردي القصصي المتضمن في تركيبته الدّلالية  خطابــــا مضاداًAnti _discoursيشكل المفارقة/التناقض الظاهري، تتحقق من خلاله القيمة الدّلالية للنص، و هي بذلك تعدّ  من الخصائص التّخييليـة الكثيرة التّوظيــف في ال ( ق ق ج ) لما تثيره من تشويق و متعة ، و لذّة في تتبع مسار الحدث و تطوره ، و سط حمّى الصّراع التناقضي .لنتأمل نص " بيت الزّوجية " و كيف يحتــدم الصّراع لدرجـــة العراك بسبب مفارقة التناقض بين الزّوجين ، و كان الأساس ألا تناقض بينهمـا بحكـــم وظيفتهما، و اهتمامهما الاجتماعي  :» تهلل وجهه المنتفخ أمام تصفيقات مخاطبيه ، و هو يسرد خطاباته المدافعة عن حقوق المرأة و حريتها ، أمّا هي فقد اغرورقت عيناها لمّا تمّ ترشيحها سفيرة للدّفاع عن حقوق الرّجل و حريته..عادا إلى البيت ، نظر إليها بخبث، نظرت إليه بحقد، ثمّ تعاركا !  «ص17
ـــــ قصة الأدرمـَـــة Dramatisation :
و نعني بذلك أنّ كلّ كيانــات التخييــل ، و خطاطة السّرد ، و المفارقة ،و البنية النّهائية ، للنّص ،كلّ ذلك في خدمة الدرامــــا. التي تنبثق من حدث اجتماعي، أو عاطفي ، فينثال السّرد ، معمقاً جرحــاً، أو كاشفاً عن ألم ، يبلى الزّمن و لا تبلى ذكراه ! كالذي نجده في نص " تحول "ص51
 » اغتصبها ذئب، في غابة الحياة . و حين شبّت ، هجمت على أوّل حمل،  لاقته في الطريق , «
و يتكرّر الموقف الدرامي في نص " حلــم " :
» لأنها تسكن جواره ، فقد داعب شعرها الأشقر . و لأنّه فارس أحلامها ، فإنّها ملّكته نفسها . و حين انتفض من فعلته ، أحست أنّها كانت تمسك بحبال ذابلة .. «ص54
6 ــــ قصّة بأسلوبين :
 يبدو الأمر غريباً ، و يدعو إلى الدّهشة و التّساؤل ..و لكن لا غرابة في ذلك إذا علمنا أنّ ما من كاتب، إلا و يعيد كتابة نص أكثر من مرّة ، بحثاً عن الأحسن ،و التماســاً للجــودة .. و نادراً مـا  يكتفي القاص بالكتابة الأولى. و إذا حدث و أعاد الكتابة، فيحدث أن يحتــار أي الأسلوبين أجدى و أنفع ؟! و في قمّة الحيرة ، و عــدم القدرة على تحديد الاختيــار الأنــسب .. قــد يتبنـاهما معاً ، كما حــدث ذلك في النّصين " اعتيـاد " ص43 و " أمانة " ص53 فمــن خلال العنوانين، نشعر بأنّنا إزاء نصين مختلفين ، و لكن بعد القراءة،  نكتشف نصاً واحداً بأسلوبين متباينين، و ألفاظ مختلفة :                                                      
النص الأول: " اعتياد " :» بطلب من زوجها،اعتنى بها في غيابه . أحبّت قدومه اليومي .. حين عاد الزّوج ، وجدها امرأة أخرى!   «
النص الثّاني : " الأمانة " » لأنّه أهل ثقة و عفّة، فقد ائتمنه على أهله ، و لمّا طالت غيبته ، ضاعت الأمانة بين الأحضان
      أمّا بالنّسبة للكتابة الشّذرية Fragmentaire في المجموعة ، أذكـــــر دائماً قولة كارل كراوس في هذا المجال ، إذ يقول : » كتابة الشّذرة بالنسبة للذي يستطيع ذلك أمر صعب , و لكنّه أمر سهل بالنّسبة للذي لا يستطيعه .« و أكاد أعمّم أنّ ذلك ينطبق على القصّة القصيرة جداً،و باقي الأجناس الأخرى إنّما الشّذرة و (ق ق ج) حالة خاصّة . ربّما الأمر يعود لدّقة كتابتهما، و طرائق صياغتهما التي لا تخلو من صعوبة ،و خبرة في الانجاز و المزاولة Performance.. و القاص و الشّاذر محمد محقق حالفه التّوفيق في كليهما، ساعدته في ذلك ، خلفيته الشّعرية . رغم ما بين الجنسين من خلاف و تبايـــن..وللحديث عن الشّذرة في مجموعة " خيوط متشابكة " نحدّدها في أنماط  كالتّالي :
1 ــ شذرة بروح الشّعر:
    أجد الشّذرة في المجموعة مضمّخة بروح الشّعر، بل أحسب شذرات كثيرة و كأنّها مقاطع من قصيدة نثرية لنتأمل نص " خبب " :» ناداها بسرعة العابرين على عجل .. سقطت كلماته في بركتها الراكدة، استرقا السّمع لإيقاع الخرير ، بعدها رقصا معاً على إيقاع الخبب .. «ص6 و من ذلك أيضاً " إلهام " ص21 و " مغامرة " ص23 و "عجوز "  ص25 و  " لسان الحال " ص30 و " حقائب الأحزان" ص31 و " كبش فداء " ص34 و"سحابة صيف" ص35
2 ــ شذرة حكائية :
    و نعني بها نصاً شذرياً يمتح من الحكي، و يطغى عليه الوصف حتّى أنّــه قد يــوهم بهاجس القص ، و لكن يبقى دون ذلك ، لأنّه يفتقر إلى القصدية الفنية و مكونات القصّة كالذي نجده في نص "ضياع " ص11 بدايته قصصية محضة ، و لكنّه يستمر إلى أن ينتهي شذرياً : » يخفي ابتسامته الصفراء،و خطواته تطوي زقاقاً سكراناً . كانت الجدران بداخله تعري عن أزمنة تركت تجاعيدها و بقايا خيوط عنكبوت ، و صورة أشهر العــاهرات بالمدينة . أضحى ملصقاً إشهارياً للمرشحة الوحيدة لحزب المدينة . و غير بعيد منها كانت سائحة شقراء، تغزل بدخانها صمت المدينة الحزينة..«ص11 و من ذلك أيضاً "ألام و آمال " ص15 و " الباحث " ص16و " نهاية " ص20 و " مجنون " و "الشارد" ص27 و " وحشة " ص28 و "غربة الذات " ص29 و " الأحلام المتكسرة " ص32 و " ساعة الحسم " ص33 و" لقاء " ص36 و " عبور " ص37 و " كوريدا " ص48  و " مأساة " ص50
3 ــ شذرة نوستالجية :
    و تُعنى بالحنين، و تستغرق في الرّؤية الذاتية لما مضى ، تسبر أغواره ، و تنبش في تلافيفه ، كأنّها تلتمس شيئاً ضائعاً ، أو ترغب بشوق في استرجاع حلم أثير.. و لا سبيل إلا الذاكرة ، فهي مستودع الماضي، و أرشيف الذكريــــات .. فكيف الوصول إلى ما كان حلماً طفولياً ؟ الشّذرة لا تأبه بالواقع و حدوده ، فهي تعارض كلّ فكر نسقي، متمردة كأيّ كتابة جياشة Ecriture effervescente ، مقلقة كــأي فكر نقدي لا تحكمها قوانين إلا قانون (الأنا ).و لكلّ ( أنا ) نوستالجيا خاصّة به كما في نص " شوق"  :»  يؤرقه الشّوق إلى حلم صباه ، يفتش عنه جاهداً، فيجده منزوياً في إحدى زوايــــــا ذاكرته الطفولية يروي حكاية لم تمتْ . «ص14
4 ــ شــذرة رمزيــة :
 و إنْ كانت محصورة في نص واحد في المجموعة ، إلا أنّ الرّمز حيثما كان ، و في أيّ جنس أدبي يثرك أثراً عميقاً في نفس المتلقي ، قد لا يصل إليه بعض الكلام الفنّي ، بلـه الكلام العادي، فالرّمز يحيل اللّغة مصباراً يرصد العمق، و يتمرد على السّطح،  و من تمّ كان كارل كراوس هدفه الأسمى هو النضال ضد الزّمن و لغته ،. إذ تنمحي المعيــــارية اللّغوية،  و يسود اللا واقع Irréalité  كالذي نلمس بعضاً من ملامحه في نص " نصر " في إطار الرّمزاللّفظي  : » توجه إلى ساحة الوغى ، يحمل جثته في كفه . لما خرج مـــن المعركة ، سقطت الجثة ، و في الكف نبت غصن أخضر.«  ص49
نلاحظ إن الشّذرة الحكائية نالت قسطا هاما من اهتمام الشاذرAphoristiker.. و ذلك قد يعود لعدّة اعتبارات أهمّها :
1 ــ إن مجموعة : " خيوط متشابكة " وُضعت أصلا ، كمجموعة قصصية ،و أثبت على
    الغلاف " قصص قصيرة جداً
2 ــ قد يكون الهاجس الحكائي سَرَى في الشّذرة تلقائياً و عفوياً .. و عن غير قصد من
    الشّاذر. بحكم  ميله إلى فنّ القصّ ، و السّرد القصير ..
3 ــ قد يكون في عنوان المجموعة "خيوط متشابكة" مَكمنُ السّر، إذ فعلا هناك تشابك و
خلط.و أعتقد أنّ القارئ العادي لا يستطيع التّمييز بين (ق ق ج) والشّذرة في المجموعة
4 ــ قد يكون هناك احتمال أخير، أن يكون الشّاذر نفسه لا يعلم أنّه شاذر! و انطلاقاً من
    ذلك ، اعتبر النّصوص الشّذرية قصصاً قصيرة جداً .
    عموماً ــ و كما قلنا سالفاً ــ إنّ القاص و الشّاذر  محمد محقق استطاع من خلال هذه المجموعة السّردية الفنّية أن يقدم قصصاً قصيرة جداً،  و شذرات متميزة بلمسات فنّية ، تحرص على مقومات هذا الفن، في التكثيف اللّغوي ، و الحذف و الإضمار، و التّلميح و الإيماء ،و الإشارة .. بعيداً عن التّقريرية و المباشرة ، و رغبة في الإيغال في كسر أفق التلقي، و اختراق النّسقية ،  و انتهاك المألوف الممل من الكتابة النّمطية ، و خلق آفاق و مسارات لغوية مختلفة، و ابتداع صور غرائبية ..و لحظات قصصية خاطفة مفــاجئة ... الشيء الذي يبشر بعطاء زاخر متنوع ، فيما يستقبل من الأيّام ..
د. مسلك ميمون    


شاركه

عن ABDOUHAKKI

هذا النص هو مثال لنص يمكن ان يستبدل في نفس المساحة ايضا يمكنك زيارة مدونة مدون محترف لمزيد من تحميل قوالب بلوجر.
    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات :

إرسال تعليق

أدب رقمي

حصريات

تكنلوجيا

بالصوت وصورة

سلايدر شو

.

صور فلكر

اخر الاخبار

:إبداع

عالم حواء

عن القالب

صفحتنا

اخر الاخبار