خاص بالموقع
لعل كتاب (السياسة اللغوية في البلاد العربية)،
للعلامة اللغوي د. عبد القادر الفاسي الفهري، والصادر للتو في بيروت عن دار (الكتاب
الجديد)، هو الأول من نوعه عربياً، لجهة البحث الجدلي العميق، الذي يربط وضع اللغة
العربية بالوضع السياسي العربي ومستقبله. فانحطاط السياسة يستتبع، بالتأكيد، انحطاط
اللغة وسائر الأبنية الفكرية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بها. فقد
أثبتت الدراسات اللسانية والتاريخية الرصينة أن بقاء اللغة وانتشارها، أية لغة، تحدّده
القوة السياسية أولاً، قبل غيرها. ويستشهد المؤلف على ذلك، بمصير اللغة اللاتينية،
التي كانت من أوفر اللغات حظاّ في العلم والمعرفة، ثم بدأت لهجات عامية غير مؤهلة،
علمياً وثقافياً، في الزحف لاستخلافها، وبالتالي رميها في متحف التاريخ. وهكذا ماتت
اللاتينية لدواع سياسية، أساسها نشوء قوميات قطرية، ركبت اللغة لأجل بناء الدولة القطرية،
في إسبانيا وإيطاليا وألمانيا وفرنسا. إلخ. فالجاهزية العلمية لم تنفع اللاتينية البتة
في البقاء، أو الصمود، أمام إرغام السياسة، حيث أمرت مثلاً، الملكة أليزابيلا الكاثوليكية
بوضع قواعد نحو العامية القشتالية سنة 1492، تمهيداً لإحلالها محل اللاتينية. وأمر
كذلك الملك فرنسوا الأول بإحلال العامية الفرنسية وحدها في المحاكم، إلخ. وانتشرت كذلك،
الإنكليزية والإسبانية والفرنسية والبرتغالية في أرجاء المعمورة، نتيجة الهيمنة الكولونيالية
أولاً.
إذن، فالسياسة في ميدان اللغة هي قبل الاقتصاد،
الذي يحل في المرتبة الثانية، وقبل الصناعة والتكنولوجيا، بل قبل الثقافة والفكر والعلم
والتنوير.
ويرى الفاسي الفهري، وهو أستاذ الدراسات العليا
والدكتوراه في جامعة محمد الخامس في الرباط، أن الأولوية بالنسبة إلى اللغة العربية
اليوم، ينبغي أن تكون للسياسة. وإن الخلل في السياسة اللغوية، وترك اللغة تتخبط في
مشكلاتها، من دون تخطيط استراتيجي لمعالجة مشكلاتها، والنهوض بها، وتوضيح الرؤى المستقبلية
لوجودها، سيتمخّض عنه، لا محالة، تهميش متزايد للعربية، بل موت بطيء لها.
إن المبادرات والاقتراحات العربية، غالباً ما تنصبّ
على ما يسمى في اللسانيات المجتمعية " تخطيط المتن " ، ولم تعتن بجانب أهم
في أزمة اللغة العربية اليوم، هو تخطيط النهوض بوضع اللغة العربية (أو موقعها) المجتمعي
والسياسي، قطرياً وإقليمياً ودولياً، أو ما يسمى " تخطيط الوضع " ، أي التخطيط
الاستراتيجي البعيد المدى، الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالسياسة اللغوية التي تتبعها
الدول، وتمكّن الشعب والنخب من أن تحمي لغتها وتذود عنها، لبقائها واستمرارها وانتشارها،
وتصميم استراتيجيات النهوض بها قطرياً وعربياً ودولياً، وتوقف فقدانها التدريجي لمواقعها،
نتيجة زحف اللغة الأجنبية والعامية على وظائفها، ووجود مخططات لاقتلاعها من المجتمع
العربي والدولي. إن اللغة العربية تحتاج إلى استنهاض شامل للبقاء، يستنفر فيه الحكام
والنخب، والجمعيات المدنية، ومجمل أفراد الشعوب العربية، أطفالاً ورجالاً ونساء، وشباباً
وكهولاً وشيوخاً، بغية التنشئة السليمة على لسان الهوية، وتوارثه عبر الأجيال، وتطويره
وتحديثه.
ولعل الصداقة العميقة التي تربطني بالمؤلف، هي التي
مكّنتني من أن أقف على " جدّيته الاستراتيجية " فيما خص لغة الضاد، وطرق
مقاربته معضلاتها والتحديات التي تواجهها، داخل فضائها التداولي وخارجه. فهو يخوض في
قضايا العربية، خوض العلماء الثقات، الكبار، لا خوض الدارسين الحاذقين العاديين. كيف
لا، وهو بالفعل عالم لغوي، وخبير لساني دولي، يجتهد بلغته، كما بلغات الآخرين، سواء
بسواء؟ يؤكد ذلك، بالإضافة طبعاً إلى مؤلفاته في شؤون اللغة واللسانيات والمعاجم، تجواله
المستمر كمحاضر عتيد، مدعو إلى مختلف المؤتمرات، والجامعات الدولية، ومن ضمنها: هارفرد،
وستانفورد، وشتوتغارت، وليدن، وباريس الثالثة والسابعة. إلخ. ومن هنا يجيء كتابه الجديد،
جديداً بالفعل على الأدبيات اللغوية العربية، خصوصاً لجهة شموليته في معالجة معضلات
العربية، وتوظيفه ما وصلت إليه الأبحاث اللسانية البيئية، والمجتمعية، والجيو ـ استراتيجية،
والسياسية، والتخطيطية، والثقافية ـ الحضارية، وقضايا العدالة والحقوق والتشريعات،
والمساواة والكرامة والديمقراطية، وإشكالات الهويات المحلية والكونية، والنظام اللغوي
الوطني والعالمي، وأسواق اللغات واقتصادياتها. إلخ.
إن القضايا المطروحة ليست كلها جديدة، بل إن عدداً
منها طرح منذ بدء تاريخ العربية، والشروع في كتابتها، وتدوين مفرداتها وتراكيبها ومعانيها،
والتقعيد لضوابطها في القرنين الأول والثاني الهجريين، ونقلها إلى لغة العلم في القرنين
الثاني والثالث، وانتشار العربية في الأقطار الإسلامية، وكتابة اللغات الإسلامية بحروفها،
وغلبة غير الفطريين على الفطريين من متكلميها. وقد تميز عصر النهضة، وما بعده، بمحاولة
التحرر من الاستعمار بصيغه الإنكليزية أو الفرنسية، أو من الحكم العثماني وتتريكه،
وإقامة مؤسسات لغوية، مثل المجامع، أو مراكز التعريب أو الترجمة، أو التربية. وكلها
أمور تدخل من ضمن التخطيط اللغوي، أو سياسة الدولة اللغوية.. إلخ. إلا أن المقاربات
والتحليلات والحلول جديدة، لكونها تستخدم مفاهيم وأدوات علمية جديدة، ترفد من علوم
اللسان المتعددة والمتداخلة مع العلوم الأخرى، الاجتماعية والإنسانية والطبيعية، وتدحض
بالاستدلال العلمي، ما روج ويروج له بصدد قصور اللغة العربية التعبيري، وعدم صلاحيتها
للقيام بالوظائف التي توكل للأجنبيات أو العاميات. ومع أن هذه المزاعم بصدد جاهزية
اللغة العربية الفصيحة باطلة، فإن ترك الحبل على غاربه لسوق اللغات، والتنصّل من المسؤولية
بالاتكالية، التي تجعل المتكلم غير مسؤول عن تدهور وضع لغته، وفقدان اللغة لمواقعها،
وتآكل وظائفها تدريجاً، أو إقرار سياسة لغوية لا يكون فيها تفاعل بين أصوات المحكومين،
وقرارات الحكام اللغوية، ولا يتم تقييم نتائجها باستمرار، كلها أمور لم تعد مقبولة
في الثقافة السياسية الحالية، وهي تتنافى وحقوق المواطنين في الحرية والمساواة والكرامة
والعدالة والعيش الكريم.
0 التعليقات :
إرسال تعليق