يمكن النظر إلى هذا الكتاب باعتباره مُلحقاً أو
إضافة زمنية وبحثية أيضاً إلى ما سبق وشهده العالم منذ 130 عاماً، حين انعقد مؤتمر
التسابق على إفريقيا في العاصمة الألمانية برلين، وبترتيب من جانب بسمارك ، مستشار
ألمانيا في ذلك الوقت. وفيما دار التسابق الأول حول استعمار إفريقيا، حيث عمدت دول
غرب أوروبا إلى اقتسام رقعتها الإقليمية لصالح تلك الدول، فقد جاء التسابق الجديد والحالي،
لا من أجل رقعة الأرض ، ولكن جاء تسابقاً أو تكالباً على استغلال مواردها النفطية بالذات
، وعلى صعيد دولها المستقلة، التي باتت تحكمها نظم تحمل صفة الوطنية والإفريقية بالطبع.
ولكن أدت الثروات النفطية إلى إصابة هذه النظم بأدواء
الحكم الأوتوقراطي الاستبدادي وبآفة الفساد التي تفشت بين أوساط النخب المرتبطة بالنظم
الحاكمة. وتم هذا كله على حساب مصالح أغلبية الشعب الإفريقي، التي ما زالت تتطلع إلى
تغيير حياتها إلى الأفضل وبالذات إلى مواجهة أوضاع الفقر التي تفاقمت نسبتها كما دلت
الإحصاءات العالمية- برغم وجود الثروة النفطية التي تقاسمتها - كما يوضح الكتاب- أطراف
الفساد الداخلي مع أطراف الاستغلال الخارجي، متمثلة في الشركات المتعددة الجنسيات،
وهو ما أدى إلى تعطيل خطط التنمية الاقتصادية الاجتماعية المفروض تطبيقها لصالح شعوب
القارة السمراء.
كثير من أدبيات السياسة والاقتصاد لا تفتأ تستعيد
العبارة الشهيرة المنسوبة إلى الزعيم الروسي فلاديمير إيليتش لينين، حين قال: الاستعمار
هو أعلى مراحل الرأسمالية. وكان يعني أن توسّع نظام الاقتصاد الرأسمالي، الذي جاء تاريخياً
في مراحل متوازية مع تحولات الثورة الصناعية، يؤدي بحكم التعريف، وبمنطق الضرورة إلى
التطلع طمعاً واستحواذا- إلى الحصول على مصادر جديدة للمواد الأولية الخام، وهو ما
يرادف بالمنطق السابق نفسه تأمين أسواق جديدة لاستهلاك واستيعاب نواتج عمليات التصنيع
الرأسمالي.
لهذا لم يكن من المصادفات العابرة في التاريخ الحديث
أن جاء عقد الثمانينيات من القرن التاسع عشر ليشهد صعوداً واضحاً وخطيراً في مدّ الطمع
إلى استيلاء القوى الأوروبية الرأسمالية على ساحات شاسعة وعلى أقطار وأوطان في قارة
آسيا، ثم قارة إفريقيا بالذات، من حيث سيادة آفة التخلف، ومن ثم الاستضعاف على ساحاتها،
وخاصة في أصقاع جنوبي الصحراء الكبرى حيث فرضت قسوة المناخ وأهواء الطبيعة وخطورة الغطاء
النباتي الحافل بأحراش السافانا وأدغال الغابات أساليب للحياة البشرية كانت أقرب إلى
البدائية في بعض الأحيان.
هذا المؤتمر الشرير
وفيما استهل عقد الثمانينيات المذكور باحتلال تونس
عام 1881، ثم احتلال مصر عام 1882، بمعنى تأمين المشارف الشمالية من القارة الإفريقية
(كانت فرنسا قد سبقت إلى احتلال الجزائر منذ عام 1830)، فقد كان طبيعياً أن تتنادي
أقطار غرب أوروبا إلى اجتماع يتم فيه اقتسام وتوزيع الغنيمة المتبقية من أوصال القارة
الإفريقية، بكل ما كانت تعد به من ركائز المعادن وخامات الموارد اللازمة لتدوير عجلة
نظام الإنتاج الرأسمالي في أنحاء أوروبا.
الاجتماع المذكور لايزال يحمل اسما له دلالته الواضحة
في تاريخ العالم الحديث: مؤتمر التسابق ( وقد نسميه التزاحم أو التدافع إلى حد التكالب)
على إفريقيا جاء عقده في الفترة 1883- 1884 في العاصمة الألمانية برلين وتحت إشراف
مستشارها- الحديدي كما يسمونه أوتوفون بسمارك (1815-1898).
وعلى الرغم من أن القرن العشرين شهد، كما هو معروف،
نضالات الشعوب الإفريقية وتضحياتها من أجل استرداد حريتها وطرد المستعمر الأوروبي بعيدا
عن أراضيها، وهو ما بلغ ذروته، كما هو معروف أيضاً، بحلول سنة 1960 عاماً لاستقلال
إفريقيا إلا أن الفترات القريبة الماضية، ومنها إلى المرحلة الراهنة عادت لكي تشهد
حالة، بل هي آفة جديدة، من آفات التسابق أو التكالب على إفريقيا، فيما أصبح الهدف متمثلاً
على وجه الخصوص في الحصول على مادة حيوية أو هي سلعة استراتيجية تحمل اسماً لاتزال
أصداؤه مدوية في شتي الأنحاء ،وهو: النفط.
نعم، ها هو عالمنا يعود ليشهد في الوقت الحالي سباقاً
على النفط الإفريقي. وهذا هو بالضبط العنوان الذي اختاره الكاتب الباحث دوغلاس ييتس
للكتاب الذي نعايشه في هذه السطور.
ولأن ثمة متغيرات كان لابد وأن تتجسد ما بين التسابق
في برلين، 1884 والتسابق الراهن في زماننا ، مطلع القرن الواحد والعشرين فقد اهتم مؤلف
كتابنا، ومعه كل الحق والمنطق، بأن يعرض ساحات الأطماع النفطية من خلال منظور يجمع
ما بين القمع السياسي داخل النظم الحاكمة في إفريقيا مقترناً بآفة الفساد، الذي اجتاح
مرافق هذه النظم، فضلاً عن الصراعات الدموية والحروب المعلنة وغير المعلنة التي لا
تلبث أن تندلع من أجل السيطرة على الموارد الطبيعية التي مازالت ركائزها كامنة، بقدر
ما أنها واعدة، تحت تربة القارة السمراء ،أو العذراء ،كما تسمى في بعض الأحيان.
فتش عن النفط
والحق أن النظرة الفاحصة والشاملة أيضاً على مقولات
هذا الكتاب تكاد تطلع قارئه على أن ما يصيب إفريقيا من عوامل عدم الاستقرار، ومن مظاهر
الصراعات القبلية- العشائرية والعرقية- العنصرية، فضلاً عما يجتاحها من ظواهر الانقلابات
العسكرية واستشراء التخلف الاقتصادي الاجتماعي - كل هذا يأتي شاهداً على ما أصبح يسميه
المراقبون بالمشكلات المزمنة، التي تستمد جذورها من حقيقة الطلب الخارجي المتزايد على
النفط المتاح من مصادره البِكر، في طول القارة الإفريقية وعرضها.
من هنا يذهب المؤلف منذ الفصول الأولى من كتابنا
إلى أن هذا الطلب الخارجي يرتبط بداهة بتدخلات خارجية من جانب أوروبا إلى أميركا إلى
الصين وغيرها، وهذه التدخلات أفضت بدورها إلى استشراء مرض الفساد في بنية النظم الحاكمة
في إفريقيا، وهو ما أدى بدوره كما يوضح دوغلاس ييتس- إلى تقويض دعائم التجربة الديمقراطية،
حيث استبدت بمقاليد الأمور نظم الحكم الأوتوقراطي في إطار تحالف مقيت ،وهو أيضاً زواج
غير شرعي، كما يقولون، بين آلة الحكم ومطامع الثروة ، ولدرجة أن كثيراً من مراقبي الشأن
الإفريقي في هذه المرحلة الحالية بات يعرض لأحوال إفريقيا من منظور بالغ السلبية ،يطلق
عليه الوصف التالي: "لعنة الموارد".
خط تشاد الكاميرون
في هذا السياق يقف المؤلف ملياً عند نموذج يراه
فصيح التعبير عن أزمة النفط في إفريقيا. صحيح أن النفط بحكم نفاسته وقيمته كعنصر للطاقة
ومن ثم كمورد للعوائد المالية المطلوب استخدامها من أجل التنمية الاقتصادية الاجتماعية
ولصالح أوسع الشرائح والقطاعات بين جموع السكان- إلا أن نموذج خط أنابيب النفط الواصل
مثلاً بين تشاد إلى الكاميرون في غرب إفريقيا يكاد يشكل نموذجاً يشهد على عكس المتوقع
إلى حد ليس بالقليل.
إنه لايزال شاهداً، كما يؤكد كتابنا على الأثر السلبي
المدمر أحياناً- الناجم عن الثروة النفطية، للأسف الشديد.
هذا الخط النفطي بلغت تكاليفه نحو 3.7 مليارات من
الدولارات، وجمع بين أطراف خارجية شتى، منها شركات النفط العالمية متعددة الجنسيات،
مع البنك الدولي إضافة إلى حكومات المنطقة مدعومة من جانب قطاعات شتي من المجتمع الإفريقي
المدني.
وخلال المراحل الاستهلالية من المشروع تناثرت الخطب
وانتشرت الآمال الواعدة بأن المشروع من شأنه أن ينقل دولة شبه صحراوية ،مثل تشاد ،من
حالة أقرب إلى الجفاف والحرمان والصراعات العرقية إلى أحوال الاستقرار السياسي والسِلْم
الاجتماعي، وهو ما يتيح بداهة العمل على تخفيف وطأة الفقر ودفع مسيرة التنمية.
لكن الذي حدث هو أن امتدت أيادي الاستبداد الفساد
السياسي في تشاد - كي تحوّل مسار العائدات النفطية المتأتية من المشروع إلى استخدام
الأموال من أجل شراء الأسلحة، التي اختار النظام الإفريقي أن يستخدمها لإطالة، بل إدامة،
فترة بقائه وأعوانه ومستفيديه في سدة الحكم إلى فترات لا يعرف مداها.
والمشكلة كما يراها مؤلف هذا الكتاب لا تتمثل فقط
فيما يحدث في دواخل إفريقيا وفي تلافيف ثرواتها النفطية، وإنما تتمثل ايضاً في سلوكيات
القوى الخارجية من الغرب بالذات- المتعطشة إلى النفط الإفريقي حيث لا تتورع هذه القوى
عن إغماض العين تجاهلاً لما يرتكبه الحكام الإفريقيون في حق شعوبهم، ومن ثم ينعم هؤلاء
المتحكمون الأفارقة بالسلطة والثروة مقابل تأييد قوى الخارج الطامعة والمستغلة. ويتم
هذا كله، بالطبع، على حساب الشعوب، وربما باستثناء شرائح محدودة للغاية ممن يصفهم الكتاب
بأنهم النخب المستفيدة من هذه الأوضاع.
تحالف الدكتاتورية والفساد
هنا أيضاً يطل المؤلف على ظاهرة النفط الإفريقي
من منظور تخصصه الأساسي في مجال العلوم السياسية، موضحاً أن القوى المسؤولة في الأقطار
الإفريقية النفطية لا تخدم مصالح شعوبها بقدر ما تخدم مصالح أعوانها- أزلامها في الداخل،
ثم مصالح عملائها- زبائنها وحُماتها في الخارج، وهو ما يتم على حساب مصالح المواطن
الإفريقي في التحليل الأخير.
بل يصف المؤلف هذه الأوضاع على أنها تتمثل في تدفق
موجات النفط جنباً إلى جنب مع بقاء الدكتاتوريات العسكرية، في ظل أوضاع يطلق عليها
البروفيسور دوغلاس ييتش العبارة التالية: إنها تربة خصيبة ولكن لصالح الرجال الفاسدين.
وهو يسوق القرائن دالة وبليغة في هذا الصدد، مستقاة
من بلد إفريقي غنّي بدوره بإمكانات النفط، وهو نيجيريا ،موضحاً أن نسبة سكانها ممن
يعيشون، أو يتعيشون، على أقل من دولار واحد في اليوم تضاعفت بين عامي 1970 و2008 وبالتحديد
من 38 % إلى 70 %، أي أكثر من ثلثي مجموع السكان.
في السياق نفسه، يسلّم المؤلف بأن ثمة جهوداً ما
برحت مبذولة لترشيد أوضاع الثروة النفطية واستخداماتها في القارة الإفريقية: يحمد لبعض
الأوساط العالمية والمنظمات الدولية دعوتها إلى الأخذ بمبدأ الشفافية في التعامل مع
هذه الموارد التي يراها كفيلة بدفع خطي التنمية لصالح أوسع قطاعات السكان، لكنه يعترف
بأن هذه المنظمات الدولية لا تمتلك الوسائل العملية ولا السلطة الفاعلة، التي تتيح
لها تنفيذ أي تغيير في هياكل وسلوكيات السلطات الحاكمة في بعض الدول الإفريقية الغنية
بموارد النفط.
بعض هذه المنظمات تتصور أيضاً أن الحل إنما يكمن
في الديمقراطية، بيد أن مؤلف الكتاب يري أن الديمقراطية ليست بالأمر الكافي، ولا هي
بالحل السحري أو الحاسم، وبمعنى أن الأمر يتعدى مجرد طقوس الانتخابات أو مراسم الاقتراع،
ولكن لابد وأن يقترن بذلك جداول أعمال ومخططات واضحة - شفافة أن شئت- يظهر فيها بجلاء
مسارات الموارد النفطية بكل ما يحيط ويرتبط بها من اتفاقات وأطراف داخلية وخارجية وكل
ما تدره من عوائد، وأيضاً بكل ما يوضح بجلاء شعبي وديمقراطي ووطني ومسؤول مصائر هذه
العوائد بحيث تصبّ في مصلحة جموع الناس قبل أن تضيف تورماً جديداً إلى ثروات الأقَلية
الأوليغاركية من المقربين والمستفيدين.
وفيما يمكن للقارئ أن يفهم احتمال وجود فئات مستفيدة
بالذات من عوائد النفط الإفريقي، ومنها كما أسلفنا نخب من المثقفين والبيروقراطيين
والتكنوقراط، ومنهم من يقدم خدمات يُعتد بها لصالح العمل الوطني في بلاده ، إلا أن
المؤلف يركز بالذات على فئات النهب المنظم والاستئثار بالنصيب الأكبر أو الأغلب من
تلك العوائد مع ترك الطبقات الأفقر الأقل حظاً والأشد حرماناً فريسة لأوضاع تدنو أحياناً
عن مستوى الإنسان العادي.
لهذا يركز المؤلف في الفصل الرابع بالذات على الربط
بين عنصرين أساسيين من سلبيات الأوضاع الإفريقية، وهما الدولة الريعية، والنظام
"الكلبتوكراسي".
الطرف الأول هو الدولة التي لا تمارس التنمية ولا
تتبع نهج الاستثمار، ولا تفكر في عمليات التنمية أو الإنتاج أو الإبداع. قصاراها أن
تمد يدها لتتسلم العائد من الطرف الأجنبي كي تنفقه على فلول المقربين وشراذم المستفيدين.
الطرف الثاني هو نظام اللصوصية بغير مواربة، والمصطلح
مشتق من الأصل اللاتيني "كلبتو" بمعني اللص، مضافاً إليه كما هو واضح لفظة
"كراسي" بمعني الحكم أو السلطة، وفيما يتطلع الناس إلى نظام ديمقراطي، أي
"ديمو- كراسي" بمعني حكم الشعب، فإن آفة إفريقيا وتعاستها مازالت تتمثل في
"الكلبتو- كراسي" أو حكم السّراق الذين يحرمون شعوب إفريقيا من عائدات الثروة
التي تضمها الأوطان التي نشأوا بين ظهرانيها، ومن حقهم أن تترجم عوائد ثروتهم الطبيعية
إلى مستوى معيشي أعلى وإلى تعليم أفضل أي إلى مستقبل معقول يليق بالإنسان.
المؤلف في سطور
البروفيسور دوغلاس ييتس أستاذ جامعي وباحث أكاديمي
في مجالات العلاقات الدولية وعلم السياسة المقارن. وقد تعمق خلال تحصيله الجامعي في
دراسة العلوم السياسية، التي حصل فيها على الدكتوراه من جامعة بوسطن، وكان موضوع رسالته
الجامعية في الاقتصاد السياسي للنفط على صعيد قارة إفريقيا جنوبي الصحراء. وقد نشر
هذه الرسالة في كتابه المعنون "دولة الريع في إفريقيا: الاعتماد على الريع النفطي
والاستعمار الجديد في جمهورية غابون"، الذي صدر عام 1996.
ثم انتقل المؤلف للعمل والإقامة في فرنسا ، حيث
قام بتدريس القانون في الجامعات الفرنسية، فضلاً عن قيامه بالتدريس في الكلية الأميركية
للدراسات العليا بفرنسا ، متخصصاً في مادة العلاقات الدولية والدبلوماسية.
ولايزال المؤلف بحكم اهتماماته القانونية والسياسية
ينشر مقالاته وتحليلاته بانتظام في مجلة "ويست أفريكا" المعنية بالأوضاع
والقضايا المهمة في منطقة غرب إفريقيا فيما تصدر المجلة المذكورة أسبوعياً من العاصمة
البريطانية لندن وتهتم أساساً بسياسة فرنسا، التي ما برحت تؤثر على الغرب الإفريقي
الخاضع لنفوذ الثقافة الفرنسية الفرانكوفونية بكل ما يتصل بها من ، مشكلات وخلافات.
ويتضح تنوع اهتمامات المؤلف بالشأن الإفريقي من
واقع كتابه السابق المعنون "السياسة النفطية في خليج غينيا: الصراع والأمن والنمو
الاقتصادي والتنمية الاجتماعية".
عدد الصفحات: 256 صفحة
تأليف: دوغلاس ييتس
عرض ومناقشة: محمد الخولي
الناشر: مؤسسة بلوتو برس، نيويورك،
0 التعليقات :
إرسال تعليق