هكذا وصف الكاتب والمفكر الفلسطيني إدوارد سعيد
العالم العربي في نهاية القرن العشرين مقارنة بأيام طفولته التي رصدها في سيرته الذاتية
"خارج المكان" التي نشرت عام 1991.
أماكن عديدة زالت، وأشخاص عديدون لم يعودوا على
قيد الحياة وباختصار، إنه عالم قد اندثر منذ توفي إدوارد سعيد يوم 25 سبتمبر 2003.
وكان سعيد يتكلم عن التحولات التي طرأت على المشهد
العربي إذ تحولت فلسطين إلى إسرائيل وانقلب لبنان رأسا على عقب بعد عشرين سنة من الحروب
الأهلية، وزالت مصر الملك فاروق الكوزموبوليتانية بعد ثورة يوليو 1952.
لكن كلام المفكر الفلسطيني، أحد أبرز واضعي أطر
"الكولونيالية" أو فكر ما بعد الاستعمار، ذلك الخطاب النقدي الذي يتناول
الآثار الثقافية والاجتماعية التي خلفها المحتل على الشعوب المستعمرة، يسري على العالم
العربي حتى بعد مرور أكثر من عقدين على كتابة هذه الكلمات.
ولعل سعيد الذي لم يشهد ميلاد "الربيع العربي"،
ولا النزاع الأميركي الروسي حول سوريا، لو كان حيا لوقف ذات موقفه الرافض لأي نوع من
التدخل الأميركي في الحرب، كما حدث إثر معارضته لغزو العراق وكوسوفو، ولجدد هذا الرفض
مع ارتفاع النداءات المطالبة بذلك.
يقول سعيد، "اعتقادي الراسخ على الرغم من عدم
وجود أي دليل بالمعنى التقليدي للكلمة، بأنهم يريدون تغيير الشرق الأوسط برمته والعالم
العربي، ربما يتم تقسيم بعض الدول وتدمير ما يسمى مجموعات الإرهاب وتنصيب أنظمة صديقة
للولايات المتحدة".
كذلك لم يشهد سعيد، الذي عاش طوال حياته حاملا هم
إقامة الدولة الفلسطينية، والتي صوت لصالحها خلال اجتماع المجلس الوطني الفلسطيني في
الجزائر عام 1988، وكان من أوائل المؤيدين لحل الدولتين، عبرية وفلسطينية، اختصام الفلسطينيون
أنفسهم وتقسيم القليل الذي حصلوا عليه من خلال اتفاقيات أوسلو (1993)، إلى حكومة حماس
في غزة والسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية.
لم يشهد سعيد هذا التقسيم السياسي والمعنوي بين
الشعب الواحد وهو الذي استقال من المجلس الوطني الفلسطيني احتجاجا على الاتفاقية التي
كرس كتابه "نهاية عملية السلام، أوسلو وما بعدها" لنقدها وتفنيد أثارها وضررها
ليس فقط على الشعب الفلسطيني وحده بل على العالم العربي كله.
إدوارد سعيد، المنحدر من أسرة فلسطينية مسيحية هجرت
المذهب الأورثوذكسي على يد المبشرين الأجانب في الشرق الأوسط لتتبع المذهب البروتستانتي،
كان من أشد المدافعين عن الإسلام والمسلمين.
كتب عنه المفكر الإسلامي المصري عبد الوهاب المسيري
مقالا بعد وفاته بعنوان "صوت فائق الروعة"، قال فيه "لقد كان سعيد مؤسسة
إعلامية بمفرده، خسر العالم العربي والإسلامي، وكل دعاة التحرر الكثير برحيله، لقد
كان يملك عقلا فذًا، وخطابا ثوريا".
ووصفه الكاتب السعودي عبد الله الغذامي بأنه
"ضمير المثقف العربي" في مقال قال فيه "إنه رجل بحجم أمة، حمل على كفه
ضمير المثقف العالمي، وتحدى أعتى الظروف والعقبات، وأطل برأسه العملاق في عمق دار الرأسمالية
والسلطوية والنفوذ المتعالي.. إدوارد سعيد هو خلاصة رمزية لكل إنسان ذي ضمير حي، لكل
مضطهد، ولكل عقل حر، هو حافز لنا لكي نتعلم في المقاومة، والمعارضة والمواجهة".
سعيد الذي نهل العلم والفنون الغربية والعالمية
وصف في كتابه الشهير "الاستشراق" (1976) الاستشراق بعدم الدقة، والتشكل على
أسس الفكر الغربي تجاه الشرق. ويخلص إلى أن الدارسين الأوروبيين قاموا بوصف الشرقيين
بأنهم "غير عقلانيين، وضعفاء ومخنثين، على عكس الشخصية الأوروبية العقلانية والقوية
والرجولية". وعزى هذا التباين في وجهات النظر إلى الحاجة إلى خلق اختلاف بين الشرق
والغرب لصالح هذا الأخير.
الموسيقى كانت ملاذ المفكر من السياسة لكنه حاول
توظيفها لخدمة مبادئه السياسية في التعايش. فسعيد، الذي كان عازفا ماهرا للبيانو، أسس
عام 1999 مع صديقه عازف البيانو وقائد الأوركسترا العالمي دانييل بارينبويم، الإسرائيلي-الأرجنتيني،
أوركسترا الديوان الغربي الشرقي المؤلف من شباب من فلسطين وإسرائيل وبعض الدول العربية
المجاورة.
سعيد، الفتى الفلسطيني الذي ولد في القدس في نوفمبر
1935لأب فلسطيني يحمل الجنسية الأميركية لأنه قاتل في صفوف الجيش الأميركي في الحرب
العالمية الأولى، عاش "خارج المكان" في مصر وبيروت وأخيرا في الولايات المتحدة.
لكن القدس، التي غادرها عند قرار إنشاء دولة إسرائيل
عام 1947، بقت في أعماقه تشكل شخصيته ووجدانه، على الرغم من أنه صار أستاذ في جامعة
كولومبيا، وهي واحدة من أشهر أربع جامعات في العالم، وبها أربعة آلاف أستاذ جامعي،
خمسة منهم فقط يحملون لقب أستاذ الأساتذة، كان إدوارد سعيد واحدا منهم.
لمياء راضي- أبوظبي - سكاي نيوز عربية
"أماكن عديدة زالت، وأشخاص عديدون لم يعودوا
على قيد الحياة... باختصار، إنه عالم قد اندثر".
0 التعليقات :
إرسال تعليق