ديكتاتـورية الـرحابنـة الجميـلـة : جواد ديوب

ديكتاتـورية الـرحابنـة الجميـلـة : جواد ديوب
ما الذي يمكن أن نسمي ما يفعله الرحابنة عبر كل مؤلفاتهم ومسرحياتهم وأغانيهم وموسيقاهم؟ إبداع؟ تفرّد لا مثيل له؟ استباقٌ للزمن واستبصار بالمستقبل وضبطٌ لإيقاع حياتنا حسب مزاجهم؟ 
إذ لا نكاد نفعل أي شيء أو نهمّ بقول فكرة أو بكتابة مقطع شعري إلا ويقفزون في وجوهنا ليفرضوا أعاجيبهم علينا وعلى ما نريد قوله لدرجة أننا نضبط أنفسنا متلبسين بالسرقة من جملهم وتعابيرهم رغم أقصى درجات الحذر من الوقوع في الاقتباس منهم.
وكأنهم لم يتركوا موضوعاً فكرياً أو تفصيلاً حياتياً أو حواراً فلسفياً ومسرحياً إلا وكتبوه، بل كتبوه بسحر عصيّ على أن نتفلّت منه ومن لآلئ معانيه وروعة إيقاعاته وغواية صوت فيروز الذي يستحوذ على مشاعرنا وأجسادنا معاً.
ببراعة شيخ  الصيادين الذي يفاجئك ويعود محملاً بالأسرار والكنوز فارضاً عليك أن تقبّل جبينه مكرساً إياه سيداً على صيادي الموسيقا الآخرين، هم هكذا، فمَنْ أشطر من الرحابنة في «اصطياد» تحف القصائد الشعرية (كقصائد سعيد عقل وطلال حيدر وجوزيف حرب وآخرين) ولؤلؤ الموسيقا العالمية الكلاسيكية والتراثية ليحولوها بحرفة صائغٍ مشرقيّ إلى حُليٍّ تزيدها البراعة جمالاً على جمال؟! وهذا بالتأكيد لم يقلل أبداً من قيمة إبداعهم وتأليفهم الخاص إنما جعلهم يرقّصون قلوبنا كلاعب سيرك يرقّص خيوله، في كل مكان نذهب إليه، في الباصات، في المكاتب، في الإذاعات والتلفزيونات، في روضات الأطفال، في قاعات الانتظار عند الأطباء، على المجيب الآلي في الفنادق، في الحدائق العامة، في الصباح والمساء وأعياد الميلاد ورأس السنة، في فصول الطقس الأربعة، في حزننا وسعادتنا وغضبنا ولحظات الدفء مع من نحب، في انتظارنا لقطارات المحطات التي ستأخذنا إلى حياة جديدة، في علب هدايا الصبايا، في خزائن الجدات، مع علب التبغ البلدي الخانق لرجال الضيعة، في الزنّار الجلدي لبارودة الدركي، تحت المطر وتحت الشمس ومع كويكبات مجرات الحب. أيّ هذا الحضور الطاغي الذي يخنقنا حبّاً؟
كُتبت الأبحاث عنهم، ودُرّست موسيقاهم في معاهد الموسيقا العربية، وقُدمّت رسائل دكتوراه عن مسرحهم ومجمل أعمالهم، ومثلما أثّر عاصي ومنصور وإلياس في أجيال سابقة كذلك أثر زياد الرحباني وحده في جيل كامل من الشباب العربي اليساري الذي ملّ الشعارات القومية وأغاني الأحزاب العروبية، وحاول الكثيرون تقليده في طريقته الأعجوبة في التأليف الموسيقي وفي نكهة صوته المميزة.
كما أنه تكاد لا تمرّ مناسبة وطنية سوريّة إلا ويكونون هم سادة أغانيها وأشعارها، يغنّون أمجاد دمشق وصليل سيوف فرسانها، وكبرياءها ونرجسيتها التي لا يضاهيها شيء إلا نرجسية بيروت «درة الشرق»، عاشقةُ الجمال، ولاّدة العظماء. فهم غنّوا للمدن، غنّوا للشعوب، ولم يخضعوا إلا لسلطان ضميرهم وموهبتهم وعبقريتهم الموسيقية فأخضعونا بإنسانية ألحانهم، وساقونا برقة أشعارهم إلى ينابيع المعرفة، فمارشاتهم الموسيقية لها وقع أقدام العسكر لكنها مارشاتٌ تقول لنا إن القوة من دون الحكمة والعدل هي طغيان، ولأنغام أغانيهم صدى هدهدة الأم لرضيعها لكنها رقة الواثق لا الضعيف، حنان الأمان لا استكانة الخوف.
لا شأن لنا بما كانت عليه علاقة عاصي ومنصور، وعلاقة عاصي بفيروز التي لا تقل عنهما «ديكتاتوريةً» فيما يخص غناءها وأداءها وانضباطها الذاتي كراهبةٍ تؤدي صلواتها أو كـ «البطرك» كما كان يصفها عاصي نفسه. وربما لا تهمّنا كثيراً علاقة الرحابنة بمن عملوا معهم كوديع الصافي وصباح ونصري شمس الدين وملحم بركات وفيلمون وهبي ومروان محفوظ وجورجيت صايغ وغيرهم،  فقد كانت علاقة «تسلطية» حين يتعلق الأمر بموسيقاهم وطريقة أدائها بحسب أصدقائهم والمقربين منهم، وهذه ربما من سلبيات العباقرة، أم هي ضربٌ من جنون العظماء؟!
إنما يهمّنا أكثر، برأيي، أنهم كتبوا بطريقة مباشرة لكنها بعيدة عن مباشرة الخطابية الحزبية، كتبوا بأسلوب فلسفي لكنه بعيد عن مخاتلة النص الفلسفي ومخبوءاته، لقد كتبوا بأسلوب سهل قريب إلى قلب الأرستقراطي والموظف والفقير، قريب من غرور الذكر كما هو قريب من روح الأنثى وغيرتها، بأسلوب مغو للشباب كما هو مهدهِدٌ للطفل، لذلك هم حاضرون معنا، في تفاصيل عيشنا ويومياتنا وكأنهم من بقية أفراد العائلة، وفي حال وجدنا شخصاً ما لا يرغب في الاستماع لأغانيهم فأعتقد أن ذلك ليس لأنه لا يحبهم بالفعل إنما هو نوع من تمرّد فرديّ داخلي، هو ضجر المحبوب من حبّ حبيبه الخانق.
مسرحياتهم جريئة كجرأة روحهم التي لم تهادن رئيساً أو ملكاً أو جنرالاً أو حزباً، وفي شخوصها نبضٌ من الحرية يهزّنا من أفكارنا المؤدلجة وعصبياتنا القبيلة، يُفيّق فينا إنسانيتنا الخاملة، ويعلّمنا كيف نحب أنفسنا أولاً لنعرف كيف نحب جيراننا وأصدقاءنا وحتى الغرباء تالياً، ولكي ندرّب أطفالنا على محبة وطننا الذي نسيناه تحت ركام كسلنا ولا مبالاة ضميرنا.
الأجمل إذاً بعد كل هذا هو أن أختم بما قاله الرحابنة في مسرحية «ناس من ورق» في مشهد شخصية عنتر مع أزياء الملوك والملكات المعلّقة على حبل الغسيل في كواليس المسرح، وحين غنّت فيروز:

«شو بيبقى من الرواية شو بيبقى من الشجر، شو بيبقى من الشوارع، شو بيبقى من السهر،شو بيبقى من الليل من الحب من الحكي من الضحك من البكي، شو بيبقى يا حبيبي، بيبقى قصص صغيرة عم بتشردها الريح. مع قصص الريح غرّبني، ع شطوط العمر غرّبني، واكتبني اكتبني عالورق اكتبني، ع الحزن وعالزهر، عالصيف وع البحر، عالشجر وع الضجر وعالسفر اكتبني... شو بيبقى يا حبيبي/ بيبقى قصص صغيرة عم بتشردها الريح».

شاركه

عن ABDOUHAKKI

هذا النص هو مثال لنص يمكن ان يستبدل في نفس المساحة ايضا يمكنك زيارة مدونة مدون محترف لمزيد من تحميل قوالب بلوجر.
    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات :

إرسال تعليق

أدب رقمي

حصريات

تكنلوجيا

بالصوت وصورة

سلايدر شو

.

صور فلكر

اخر الاخبار

:إبداع

عالم حواء

عن القالب

صفحتنا

اخر الاخبار