في ذكرى رحيله: نجيب محفوظ بين فنّين :صالح ذباح

في ذكرى رحيله: نجيب محفوظ بين فنّين :صالح ذباح
  أغلب المحاولات لنقل روايات عربية، بقيمتها وتركيبها وعمقها، إلى شاشة السينما، لم تكلّل بالنجاح. وينطبق هذا الأمر على تجربة نجيب محفوظ (1911 ـ 2006)، أبرز الروائيين العرب الذين نُقلت أعمالهم إلى الشاشة الكبيرة. عودة إلى علاقة الكاتب المصري، في ذكرى رحيله الثامنة قبل أيام (30 آب/ أغسطس)، بالسينما، تكفي للتأكد من ذلك.
عودة ستكشف أيضاً عن مفارقة حكمت علاقة صاحب "أولاد حارتنا" بالفن السابع، وتتمثّل في اكتفائه بالاشتغال على قصص وروايات غيره لتحويلها إلى الشاشة، وتركه أعماله الروائية لكتّاب سيناريو ومخرجين آخرين.
شرع محفوظ، منذ أواخر الأربعينيات وحتى الستينيات منه، بكتابة سيناريوهات لقصص وروايات لم تكن من تأليفه. هكذا، تعاون مع المخرج المصري صلاح أبو سيف على إنجاز العديد من الأعمال التي شكّلت ملتقىً لرائدي الواقعية في الأدب والسينما المصريين، منها "المنتقم"، و"ريا وسكينة"، و"شباب امرأة"، و"أنا حرة".
لم يكن مستغرباً أن يكتب محفوظ السيناريو لروايات وقصص استلهمت أبطالها من الحارات والأزقة، بنفحة شعبية تقارب روح ما كتبه هو من روايات. وكان عملَ ككاتب سيناريو مع مخرجين آخرين، مثل يوسف شاهين في "جميلة"، وحسين كمال في "إمبراطورية ميم". وتبدو هذه المفارقة لافتة في مسيرة محفوظ والسينما المصرية، التي دخلها من أبواب الآخرين، تاركاً بابه الشخصي، المتمثل بعدد من أهم النصوص السردية في الأدب المصري؛ مفتوحاً كي يدخل ويخرج منه الآخرون إلى عالم الفن السابع.
22 من رواياته حوّلت إلى أفلام، ابتداءً من "بداية ونهاية" (1960)، مروراً بـ"اللص والكلاب" (1962) و"القاهرة 30" (1966)، و"ثرثرة فوق النيل" (1971)، و"الكرنك" (1976)، وصولاً إلى "أهل القمة" (1981) و"الجوع" (1986)؛ ولم يشارك محفوظ في أي منها ككاتب للسيناريو أو الحوار. كأنه لا يرى في كتابته حواراً سينمائياً لرواياته، أمراً موضوعياً، أو لعله رغب في أن يستسيغ قلمٌ آخر ما كتبه هو، ويحوّله إلى مشاهد مرئية ومسموعة من دون تدخّله للإضافة على الرواية أو التغيير في سياقاتها النصية، سينمائياً.
الأكيد أن مستوى الأعمال التي اقتبست من أدب محفوظ، لم تكن بمستوى رواياته، بأبعادها ومقاصدها وتراكيب شخصياتها. والمثال الأبرز على ذلك هو ثلاثيته الشهيرة، التي حوّلها إلى الشاشة الكبيرة المخرج حسين الإمام. وكان هذا الأخير قدّم "بين القصرين" (1962)، و"قصر الشوق" (1966)، و"السكرية " (1973) من دون أي بصمة تذكر في تاريخ الفن السابع المصري أو العربي. فعلى سبيل المثال، بدت شخصية سي السيد مملّة على الشاشة رغم ما قدّمه الممثل يحيى شاهين من جهد في تأديته للدور، كما بدا التكرار عنصراً أساسياً (مزعجاً) في الثلاثية السينمائية. وقد يعود السبب الأساسيّ في ذلك إلى القدرة العالية التي تمتّع بها الكاتب في تطوير خطه السرديّ وبناء الشخصيات والمكان، ما يصعّب على المخرج التفوق سينمائياً على النص المكتوب.
لكن ذلك لا ينفي محاولات وأعمالاً اقتربت من الروح الشعبية لروايات محفوظ؛ أبرزها فيلم "اللص والكلاب" (1962) للمخرج كمال الشيخ الذي استطاع، رغم التكرار والتطويل، أن يقترب من الأبعاد النفسية والرؤية الفلسفية لبطل الرواية، اللص سعيد مهران (شكري سرحان)، في مواجهة الكلاب المتمثلة بشخصيات عدّة، منها نبويّة، زوجته التي خانته مع عليش، أعزّ أصدقائه، ورؤوف علوان كرمز لرجال الصحافة الفاسدين؛ وذلك من خلال التصوير في مناطق شعبية مفتوحة، والاستخدام المكثّف للظّلال بما يوائم الحبكة البوليسية.
وتبقى اللمسة الأبرز التي حاول من خلالها الشيخ مجاراة محفوظ في رسم المشهد القصصي في هذا الفيلم، وصلة المحاكمة الشهيرة، التي يتخيّلها البطل من وراء نافذة بيت نور، المومس (شادية)؛ إذ تتحول قضبان النافذة الى قضبان سجن، تفصل اللص عن قضاة جالسين على ما يشبه منصة مسرحية، في أجواء بدت ذات طابع تجريدي، استعان المخرج فيها بلغة تعبيرية غير معهودة، خرجت عن الأجواء الواقعية للرواية.
أما أكثر الأعمال التي ضاهت جودتها السينمائية نص محفوظ المكتوب، فتمثلت في "ثرثرة فوق النيل" و"الكرنك". الروايتان اللتان تنتقدان العهد الناصريّ، استفادتا، في نسختيهما السينمائيتين، من الأجواء السياسية في مصر السادات، التي وجّهت سهامها نحو تجربة عبد الناصر وفتحت الأبواب للكتّاب والفنانين لنقدها. وظل العملان، رغم تنفيذهما السينمائي الجيّد، يدوران، سياسياً، في الفلك الساداتي؛ فجاء الأول مبشّراً بالتغيير، بينما استغرق الثاني في الدعائية للنظام الحاكم.
شادية وشكري سرحان في "اللص والكلاب"، 1962
لكن محفوظ سيعود لمراجعة نفسه وتجربته في تلك المرحلة من السبعينيات، هو الذي انساق مع موجة المصفّقين لاتفاقية "كامب ديفيد" مع إسرائيل. من هنا أتى فيلم "أهل القمة" (1981)، الذي أخرجه علي بدرخان ولم يرقَ، سينمائياً، إلى ما وصله كل من "ثرثرة.." و"الكرنك"، لكنه قدّم لغة جديدة في التناول، تنفتح على موجة الواقعية الثانية في السينما المصرية، التي ابتعدت عن تجميل الواقع والدعاية السياسية والطرح المباشر. ويتطرّق العمل إلى عواقب سياسة الانفتاح الاقتصادي التي عرفتها مصر في ذلك الوقت، وأتاحت لسارق مثل زعتر (نور الشريف) الزواج من شابّة متعلّمة (سعاد حسني)، في علاقة سيقف في وجهها أخوها، الضابط (عزّت العلايلي).
أما ملحمة "الحرافيش" التي كتبها محفوظ عام 1977، والمؤلفة من عشر قصص، فكانت "ضحية" عدد من الاقتباسات السينمائية التي اقتصّت، في كل مرة، أجزاء من العمل الأصلي، لتخفق في تقديمها بلغة سينمائية تضاهي النص الكتابي.
تبقى العلاقة بين ما كتبه نجيب محفوظ وما نُفّذ من أعماله على الشاشة خصبة للقراءات والمراجعات، بوصفها واحدة من أكبر تجارب الاقتباس السينمائي من الأدب التي عرفتها مصر. غير أن الأكيد والثابت في هذه التجربة، حتى الآن على الأقل، هو انتصار الرواية، فيها، على الشريط السينمائي، وانتصار القارئ، في نسبة المتعة، على المشاهد.


شاركه

عن ABDOUHAKKI

هذا النص هو مثال لنص يمكن ان يستبدل في نفس المساحة ايضا يمكنك زيارة مدونة مدون محترف لمزيد من تحميل قوالب بلوجر.
    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات :

إرسال تعليق

أدب رقمي

حصريات

تكنلوجيا

بالصوت وصورة

سلايدر شو

.

صور فلكر

اخر الاخبار

:إبداع

عالم حواء

عن القالب

صفحتنا

اخر الاخبار