رواية سليم بركات الجديدة "سجناء جبل آيايانو الشرقي"وليد هرمز
غلاف الرواية
""سلسلة من جرائم القتل يُقاضى مرتكبوها لابما يقابل الجنايةَ فداحةً، بل بعقاب ملتبس في تساهله: أن يقدموا اعتذاراً إلى مَنْ قَتَلوا. والثمانية عشر نفراً في هذه الرواية، الذين تخيَّرتْهم الجرائم مصادفةً، أو قصداً، لإنجاز حدوثها، سيقبلون شرطَ العقاب المحيِّر، متجهين صعوداً في الجبل إلى موطن القتلى، بلا أدلاَّء، أو خرائط يهتدون بها إلى مقصودهم. هذه الرواية عرض للجرائم، وتوصيفٌ لأحوال القَتَلة اجتمعوا غرباءَ أحدُهم عن الآخر، وتوثيق لأسئلتهم عن معنى صعود الجبل في مهمة كالعبث. لكنْ، أين هم ذاهبون حقًّا؟".
هذا هو التعريف المُعلن بهذه الرواية، على الغلاف الخلفي. وهي هكذا، وأشياء أخرى تزدحم بها صفحاتها الـ 430 (صادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، في بيروت). ربما ستستوقفنا جملة هي "إلى أين هم ذاهبون حقًّا؟". أهذا تلخيص العمل برمته؟ نتساءل بدورنا، بعد القراءة، مستعيرين الجملة ذاتها. فهؤلاء القتلة، الذين في طريقهم لتقديم اعتذار إلى مَنْ قَتَلوا، لايعرفون الطريق. إنهم يسلكون الجبل صعوداً، لاغير. هل سيصلون إلى القتلى ليقدموا اعتذارهم؟ لاأحد يملك جواباً.
القتلة الذين تتحدث عنهم الرواية، أشخاص في مهن مختلفة: معلم رياضيات. مُبَشِّر. معلم رقص رياضي. محامية. طبيبة كلاب. طبيبة نفسانية. موزع بريد. لاعب كرة قدم. صانع حلويات… الخ. شخصيات كثيرة تتفرَّع عن علاقاتها شخصيات أكثر. كل واحد منهم ارتكب جريمة قتل إنسان قريب جداً منه. هناك من قتل أخته، أو أخاه، أو أمه، أو أباه، أو ابن أخته، أو ابنة أخته، أو إبنته، أو حفيده. قتلٌ مفجع في تدفقه واستمراره، وهو مايقودنا إلى انطباع بأن كل إنسان مشروع قاتل محتَمَل.
المجموع القائمون لهذه الرحلة غرباء واحدهم عن الآخر. نساء ورجال وشبان في مقتبل العمر أيضاً. يتصارحون عبر زمن الرحلة ومااستغرقته بأسباب وجودهم، وأسباب المهمة التي قادتهم إلى طريق الجبل. تباعاً يعترفون. لكن الرواية ليست محصورة بعلاقاتهم الجديدة الناشئة وهم في الطريق الغريب. كل فصل من الفصول الستة عشر يعرض لحادثة قتل، وأسبابها، وبعض خلفيات هؤلاء الذين ارتكبوا جرائمهم، حتى أن كل فصل كأنه رواية بذاته، لتعدُّد الأشخاص داخله. وكل فصل، عدا مايرويه ويصفه من جريمة القتل، يحتوي طبعاً على سرد للرحلة، وعلاقة الأشخاص الغرباء بعضهم ببعض، كما يتضمن أن يروي أحدهم حكاية طريفة للسَّمر في مساء كل يوم من أيامهم. ثلاث طرق للسرد تتم داخل الفصل الواحد، مما يجعل مجموع الرواية الكبيرة هذه سجلاًّ ضخماً لحكايات تتراصف وتتداخل، بثراء، في مشاهد واسعة جدًّا.
لا يمكن تصنيف الحوارات في هذه الرواية لشدة تشعباتها، وأسئلتها وطرافتها. إنها واقعية، وشعرية، أحيانا، وفلسفية أحياناً. حكيمة وهاذية ومجنونة، وساخرة إلى درجة الإنفجار. أشخاص بأمزجة مختلفة جدًّا، وخلفيات ثقافية متفاوتة، جمعتهم الرحلة التي لم تبدِّل أساليب المحاورات بينهم. بعضهم يستفهم مايقوله البعض. وبعضهم يتجاهل لأنه عاجز عن الفهم. وبعضهم يتعمَّد أن يقلِّد البعض.
ربما يلتبس علينا الزمن في هذه الرواية، لابسبب طريقة الحوارات فقط، بل لأن المكان الذي يسلكونه، من السجن حتى سفوح الجبل، يبدو قديماً جداً مع ادعاء بعضهم أن حرباً جرت في تلك الأرض طوال 800 عام. والمدينة نفسها التي سكنوها تبدو حديثة كمدن عالمنا أحياناً، وغريبة جداً أحياناً. حتى الوقائع تبدو مقسومة على أزمنة متناقضة أو متباعدة بفراغ لايمكن تقديره إلا بالخيال.
السجن نفسه الذي دخلوه بعد حدوث الجرائم، كهف في الأصل، جرى توسيعه عبر القرون في كتلة حجرية داخل الجبل الشرقي. وسَّعته سلطات الدولة المتعاقبة حتى بات كمدينة محجوبة. له شرفة غريبة بقضبان تحجزها في الصخر، مشرفة على شلالين كبيرين. وفي هذا السجن يستقبلهم شخص لاتفصح الرواية عن هويته إلا في السطور الأخيرة، فإذا هو الطبيب الشرعي المشرف على توثيق الإعدام. هذا الشخص هو الذي يقترح عليهم الخروج من السجن مقابل تقديم اعتذار إلى القتلى. إنهم أثناء الرحلة يسخرون من الاقتراح الغريب، ويستهزئون به. لكنه اقتراح أوجد لهم مخرجاً من السجن على كل حال. اسم الشخص الذي اقترح عليهم ذلك أشبه بأسماء الأساطير، أو الشبح الذي يعبر الأحياء على قاربه إلى مملكة الموتى في الأساطير.
مشاهد الرواية في خاتمتها تشبه رؤيا خرافية. إنهم يلتقون أخيراً، في مكان من آثار محطمة ومنهارة، بامرأتين من أكثر الأشكال غرابة، قد تذكرنا ببعض الملامح الغريبة في رواية بركات السابقة "حورية الماء وبناتها". المرأتان مائيتان أيضاً. لاأعني جسديهما بل الوجهين والأيدي، فهي ماء في غشاء جلدي شفاف. وهما تبلِّغان مجموع أفراد الرحلة أنها انتهت في المكان الذي قابلتاهم فيه، وأن عليهم ترميم آثار كثيرة متهدمة في ذلك الموقع. لكنهم يستنكرون على وقع يقظة ذاكرتهم واحداً واحداً على ماجرى لهم قبل إطلاقهم من السجن: إنهم لم يغادروا السجن. والرحلة كلها من نسج اللحظة التي غاص فيها واحدهم في خدر الموت بعد حقنه بإبرة من مخدِّر قاتل هو وسيلة الإعدام في ذلك السجن. يستنكرون طلب المرأتين وقد عرفوا أنهم هم موتى، ثم يخلعون ثيابهم ويكملون صعود الجبل وهم عراة.
أكل إنسان هو مشروع قاتل؟ إنه واحد من أسئلة الرواية. لكن السؤال الذي ينطبع في الذاكرة بإلحاح هو: ماالموت؟ أهو شكل آخر من أشكال الحياة كصعود الجبل بلا معرفة إلى أين؟ الموت يسير متجسداً في هيئات أولئك الأشخاص، من أول الرواية إلى آخرها من غير إشارة صريحة إلى ذلك. الموتُ هو مؤلِّف مسيرة الجماعة في رحلتهم المتوهمة. نحن لانعرف أنهم قَتَلة أُعدموا، وهم لايعرفون أنهم موتى أُعدموا. هناك مسألة الإعتذار التي يرونها سبباً غير مفهوم لإطلاق سراحهم من السجن (سنفهم ذلك في ختام الرواية)، وهم يستخفُّون بأمر هذا المخرج العبثي. لكنهم متهيبون لأنه ليس لدى أحد منهم فكرة عما سيفعل إذا التقى الشخصَ الذي قتله.
إذا كانت رواية سليم بركات السابقة "حورية الماء وبناتها" (وهي مجابهة بين أناس مفترسين) رحلة إلى الجحيم أو عودة من الجحيم، فهذه رحلة أخرى في الموت بلا تصورات عما يلي ذلك: عراة يصعدون جبلاً.
عن مجلة كيكا
0 التعليقات :
إرسال تعليق