جمعية
جسور تحتفي بكتاب "الإسلام بين الحداثة وما بعد الحداثة" أعدّ التغطية: فريد أمعضشـو – الناظور.
احتضنت
القاعة الرئيسة للمركَّب الثقافي لاكورنيش بالناظور، ليلة الأحد 20/07/2014، بعد
صلاة التراويح، ندوة علمية حول أحد أحْدَث إصدارات د. جميل حمداوي في المجال
الفكري، وهو كتابه "الإسلام بين الحداثة وما بعد الحداثة (مواقف ومواقف
مضادّة)"، نظّمتْها جمعية جسور للبحث في الثقافة والفنون ومندوبية وزارة
الثقافة بالناظور، وشارك فيها ثلة من الباحثين والمهتمين بالشأن الأدبي والثقافي
عامة، وسيّرها القاصّ والناقد المسرحي د. جمال الدين الخضيري.
استُهلّت
الندوة بمداخلةٍ مركزة وعميقة في الآن نفسه، للأستاذ ميمون حرش، المعروف بكتاباته
القصصية المميَّزة فنيا وتيماتيكيا، قدّم من خلالها، أولا، قراءة عمودية واصفة
لمفاصل الكتاب المذكور (160 صفحة من القِطْع المتوسّط)، بَسَطت أمام الحاضرين
محتوى العمل وإشكالاته ومنهجه ونحو ذلك. ثم أعقبها بالإدلاء بجملةِ ملاحظات عَنّتْ
له وهو يقرأ الكتاب، سواء أكانت من إيجابياته، وهي كثيرة بالفعل، أو ممّا يبدو
نقصا شابهُ، علماً بأن كل عمل بشري، فكري أو غير فكري، يظل عرضة للخطإ والقصور،
وبأن الكمال غير متصوَّر ولا متحقق إطلاقاً في هذا الصدد. فالكتابُ، حسب حرش،
مرجعٌ مهمّ ومفيد وممتع للقارئ المتخصص وكذا العادي، ومما يسوِّغ أهميته هذه أنه
يجْرد شتى الآراء التي قيلت وعُرِفت في مجال تناول قضية الكتاب المحورية، سواء في
السياق الثقافي الغربي أو في السياق العربي الإسلامي. وأنه عملٌ يرمي إلى الإسهام
في سدّ بعض الفراغ الذي نلمسه في المكتبة العربية الفكرية فيما يتعلق بتناول علاقة
الإسلام بالحداثة البَعْدية خصوصاً. وذكر حِرْش، كذلك، أن الكاتب استند على مادة
مرجعية غنية لمعالجة قضية كتابه، ويظهر ذلك، بوضوح، من تصفح قائمة المصادر
والمراجع التي اعتمدها في تأليف عمله هذا، مع تسجيله أنَّ الباحث استفاد كثيراً من
اجتهادات المفكر المغربي محمد سبيلا، المبثوثة في كتاباته، ولاسيما في الفصل الأول
من الكتاب. ولاحَظ الأستاذ ميمون، كذلك، أنّ الدكتور حمداوي ظل وفيا، في مختلف
محطات كتابه وأجزائه، للمنهج الذي ارتضاه وتمثله لمعالجة موضوع الإسلام في علاقته
بالحداثتين القبْلية والبعدية، وهو "منهج نقدي فكري قائم على التأريخ
والتحقيب والأرْشفة الببليوغرافية، واستعراض المعلومات والمواقف، وتقويم الآراء في
ضوء مجموعة من الأدلة والحُجَج والبراهين النصية والعقلية". (من المقدمة، ص
16)
ومن
الناحية المقابلة، رأى المتدخِّل أن الحيز الذي أفرده الكاتب للحديث عن الحداثة
(La modernité)، بوصفها مفهوماً زئبقيا
يستعصي على القولبة والضبط وقبول حدٍّ نهائي يكون جامعاً مانعاً؛ بلغة المناطقة
المسلمين، غير كافٍ لتَوْفِية مثل هذا الحديث حقَّه من البيان والتحديد، لاسيما
وأن أغلب الكِتاب قائم على هذا المفهوم المركزي. وانطلق من معطَى أن الحداثة في
الإسلام حداثتان: حداثة الوحي الرباني القائمة على القرآن والسنة الصحيحة، وحداثة
الممارسة الواقعية كما تجسّدت عبر تاريخ الإسلام، ليؤكد أن تعديد نموذجات حداثية
في هذا التاريخ، الذي يجسد "الإسلام التاريخي" في مقابل "الإسلام المثالي
المعياري"؛ كما يقول د. سبيلا، لا معنى له، ما دامت تؤول، في النهاية، إلى
الحداثتين الأساسيتين المُومَإ إليهما. وسجّل حرش، كذلك، وجود بعض النقص على مستوى
الاستدلال والتمثيل أحياناً، وانطواء الكتاب على أحكام نقدية يعْوزها الدليل،
وتجنح نحو التعميم في مواضع عدة منه... على أن هذه المَلاحِظَ وغيرها لا تنقص من
قيمة العمل المقروء، ولا من أهميته الأكيدة فكريا ومنهجيا، بل هي – في مجملها –
وجهات نظر بالأحْرَى.
واتجهت
المداخلة الثانية رأساً إلى استجلاء مرجعيات الكاتب في عمله هذا، وهي إجمالاً
اثنتان بارزتان حسب د. امحمد أمحور؛ إذ تتجلى الأولى في المرجعية التراثية
الأصيلة، والأخرى في المرجعية الغربية الحديثة؛ ذلك بأن جميل حمداوي اتكأ على آي
قرآنية وأحاديث نبوية واجتهادات عدد من أعلام الفلسفة والفكر الإسلاميين، قديما
وحديثاً، لمعالجة قضايا كتابه ومناقشتها، واستدعى من هذا الخزان الغني جملة من
المفاهيم، محاولا – بكثير من الجُرأة – تبْيِئتَها وتوظيفها في السياق العربي
والإسلامي الحاضر، مع التنبيه على ما يطرحه ذلك من صعوبات حقيقية. على حين تتمظهر
المرجعية الثانية في تلك الكتابات والاجتهادات الغربية، القديمة والحديثة، التي
انفتح عليها الكاتب، واستفاد منها ومن مناهجها في الدراسة، في مَواطن عديدة من
كتابه. وأكد الدكتور أمحور أن صاحب هذا الكتاب لم يكن يرى غضاضة في مثل هذا
الانفتاح، الذي يغدو – في أكثر الأحايين – ضروريا، ولاسيما لدى تناول إشكاليات
فكرية معاصرة معقدة كتلك التي انصرف إلى مقاربتها عملُ د. جميل؛ لأنه كان بعيداً
عن أي تخَنْدُق أو خضوع إيديولوجي أو تحيُّز فكري مسبّق... وكان أكثرَ تحرراً
وإنصاتاً إلى صوت الحقيقة والمنطق، بقطع النظر عن المصدر الذي يمكن أن يَرِدَ منه.
وأثار الناقد انتباهنا إلى اجتهاد حمداوي في استنبات جملة من مفاهيم الفكر الغربي،
وفي تهيئة أجواء استقبال مناسبة لها، حتى لا يحصل أي صدام بينها وبين منظومتنا
المفاهيمية، مِنْ شأنه أن يُعرْقل المَساعي التي ما فتئت تُبذل لخلق الجسور
والتقارُبات بين عددٍ من مفاهيم الفكر الغربي ونظيرتها في الثقافة العربية الإسلامية،
دون أنْ تفقد جوهر هُويتها وأصالتها.
واختار
أحمد مروع، وهو رجلُ تعليم وواعظٌ، قصْر كلمته على تناول مسألة الاجتهاد من خلال
كتاب "الإسلام بين الحداثة وما بعد الحداثة"، لاسيما وأن مِنْ دارِسِينا
مَنْ يستعمل المفهوم بوصفه مرادفاً أو مقابلا إسلاميا لمفهوم "الحداثة"
الغربي، وأعني – تحديداً – المفكر السعودي زكي الميلاد؛ رئيس تحرير مجلة
"الكلمة" الورقية الفصْلية، الذي أكّد في تقديمه لكتاب حمداوي أن
"مفهوم الاجتهاد، في المجال الإسلامي، هو المفهوم الذي يعادل، أو الذي
بإمكانه أن يعادل، مفهوم الحداثة في المجال الغربي، وذلك بالاستناد على أنّ مفهوم
الحداثة يتكون من ثلاثة عناصر أساسية وجوهرية، هي: العقل والعلم والزمن، وهذه
العناصر الثلاثة هي العناصر المكوِّنة لمفهوم الاجتهاد" (ص 6). وقد انتهز
المتدخِّل الفرصة لتأكيد أن الاجتهاد أصل راسخ في شريعتنا السمحة، مورس عبر تاريخها
المديد، وما زال يُمارَسُ في المجالات التي تقتضيه بطبيعة الحال، مشدِّداً على أن
بابه يظل مفتوحاً إلى أنْ يرث الله الأرض ومَنْ عليها. وأتى ذ. مروع بوقائع
اجتهادية من هذا التاريخ، تثبت أن أبناء الأمة الإسلامية اجتهدوا، وأعْمَلوا
الأذهان، واستفرغوا الوُسْع في مواجهة كثير من النوازل والمستجِدّات والحالات التي
لا دليل قطعي فيها. ومن ذلك قصة معاذ بن جبل (رضي الله عنه) مع النبي (صلى الله
عليه وسلم) حين بعثه إلى اليمن قاضياً. وظهر الاجتهاد في ميدان العبادات أيضاً؛
مثلما حدث للمسلمين، في بدايات الدعوة المحمّدية، بخصوص صلاة العصر في بني قريظة...
وآثَرَ
الأستاذ محمد أمغار إفرادَ مداخلته لقراءة جملة من عتبات (Seuils) الكتاب ونصوصه
المُوازية قراءة "سيميائية" في بعض جوانبها؛ كما ذكر المتدخل. بحيث إنه
تطرق إلى مقاربة مقدمة الكتاب وتقديمه المُدبَّج بيراعة الميلاد كما أشرنا إلى ذلك
آنفاً، بالوقوف عند موضوعاتهما وأفكارهما الأساسية، وعند مقاصد المؤلِّف والمقدِّم
منهما، وعند أهميتهما معاً مضمونا وشكلا ومنهجاً. وتلا ذلك التفاتُه المتأني إلى
أحد أبرز مكوِّنات غلاف كتابه، وهو تلك الصورة التركيبيّة المُوحية التي استوتْ
على معظم صفحة الغلاف الأمامي، والتي تجمع بين عناصر تربطنا بالأصالة والتراث
وعناصر أخرى تحيلنا مباشرةً على الحداثة الغربية المعاصرة. وقد مكّنت القراءة
التأويلية العميقة التي قدّمها الأستاذ للصورة من اقتراح فرضيات وجيهة عدَّها
مداخلَ تنير الطريق إلى أعماق الكتاب، وتلقي أضواء كاشفة تلامس جوهره. وعقب ذلك،
تناول أمغار مفهوم الحداثة من زوايا التعريف والضبط الدلالي والتأريخ، مشيراً إلى
صعوبة مثل هذا التحديد المفهومي في ظل كثرة الآراء والاجتهادات، وتنوّعها،
وتضاربها أيضاً.
واختُتمت
الندوة بمداخلة الأستاذ فريد أمعضشو التي توخت، في الأصل، بسْط الكلام في عدد من
القضايا التي يطرحها الكتاب، في فَصْليَه، إلا أنه ارتأى – التزاماً بالزمن المحدد
للمداخلة – التطرق إلى إحداها فحسْبُ، وهي إشكالية العلاقة بين الإسلام والحداثة
من منظور الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر؛ هذا الفكر الذي لم ينظر إلى القضية نظرة
واحدة، بل تباينت مواقفه منها على نحوٍ واضح وتعدّدت، على أنّ أهم هذه المواقف ستة
عبّر عنها حمداوي بالعبارات العنوانية الآتية: أسْلَمَة الحداثة – تمجيد الحداثة
الغربية – موقف الرفض القاطع للحداثة – تجاوز الحداثة الغربية – الموقف النقدي –
التوفيق بين الحداثتين الإسلامية والغربية. وقد فصّل القول في هذه المواقف
والآراء، كلّ منها على حِدَة، وعبّر في ثنايا ذلك عن وجهة نظره حِيال الإشكالية
المذكورة، وهي وجهة منحازة إلى الفريق المُوفِّق بين الحداثتين، على أساس أن
الإسلام عرف حداثة ذات خصوصيات، منذ قرون بعيدة، وأن التشبث بها، والإفادة منها،
لا يمنعان الانفتاح الواعي المسؤول على مُنجزات التحديث والحداثة الغربيتين،
واستقدام الصالح منهما والمفيد بالنسبة إلينا. يقول د. جميل: "الحداثة كونية
وعامة وإنسانية، يشارك فيها الجميع إبداعاً وتأصيلا وتأسيساً، وليست مقتصرة على
الغرب فقط، بل يمكن أن يشارك فيها اليابانيون والصينيون والهُنود والأفارقة
والمسلمون؛ لأن الحداثة تنبني على التلاقح والمثاقفة والتناصّ والتكامل والتفاهم
والتعاون والتواصل. وفي الوقت نفسه، يجب أن نحافظ على شخصيتنا المعنوية، ونتشبّث
بأصالتنا وتقاليدنا وعاداتنا وقِيَمنا ومعتقَدنا. هذا هو الموقف الذي أتبنّاه
شخصياً" (ص 87). ويقول أيضاً: "أتبنى شخصيّا منظور التوفيق بين الحداثة
الغربية والحداثة الإسلامية. ويعني هذا الجمعَ بين الأصالة والمعاصرة، وخير الأمور
أوسطها" (ص 91).
وقبل
الإعلان عن إنهاء أشغال هذه الندوة، التي دامت ساعتين، فُتِح بابُ النقاش الذي كان
غنيا ومثمراً، وأُعْطِيت كلمة ختامية للدكتور جميل حمداوي بهدف الردّ العلمي
وتوضيح ما رآه أحْوَج إلى مزيد بيان وإيضاح، ثم سُلّمت شهادات تقديرية لكافة
الأساتذة المتدخلين في قراءة الكتاب.
أعدّ
التغطية: فريد أمعضشـو – الناظور.
0 التعليقات :
إرسال تعليق