تقديم وترجمة: كوليت مرشليان


بعد نصف قرن من غياب المغنية الفرنسية "الأسطورة" اديث بياف، لا زالت الكتب والدراسات الموثّقة من حول حياتها الشخصية والفنية تتوالى وآخرها "بياف، أسطورة فرنسية" صدر عن "دار فايار" للمؤلف روبير بيلوري. وقد أجرى هذا الأخير بحثه الطويل ليطلع معه مسار حياة ليست اطلاقاً كما تقول اغنيتها الشهيرة "حياة في الورود". حتى أن بعض التفاصيل قد تكسر صورة الأسطورة غير أنها لا يمكن أن تهزّ موهبتها وإبداعها في الغناء، ومن الكتاب نقتطف بعض الفصول وننقلها الى العربية:
بياف في العشرين: فتاة شبه أميّة
(لويس لوبلي المسؤول عن "كاباريه جيرني" في شارع "الايتوال" في باريس يكتشف اديث غاسيون ويطلق موهبتها ويعرّف عنها بإسم: "الموم بياف". لكن صعودها سيتوقف بعد مقتل الرجل وتوقيفها في تحقيقات انطلقت من الشك بالمقربين منه وبياف من ضمنهم).
(...) بعد قضية لوبلي، وجدت بياف التي كانت محاطة بالأصدقاء أنها لم يعد يتبقى لها من أصدقاء سوى بعض المعارف المشبوهة في شارع "لابيغال" الذي لم تعرف الخروج منه.
وهنا دخل حياة بياف أو يمكن القول انه دخل في كواليس حياتها رجل لم يكن معروفاً في أوساطها وسيلعب دوراً مهماً في حياتها وكان يدعى جاك بورجا. وهذا الرجل الذي قاده صديق ذات يوم الى "كاباريه جيرني" أصبح سريعاً مرشد بياف وأستاذها وصديقها المقرّب الذي تَفشي له بكل أسرارها. وبورجا المولود في كوربوفوا عام 1888 ويسكن في الشاعر 6 "بوتي شان" خلف "الباليه رويّال" كان قد نشر كتاباً يحكي فيه سيرة بيار جوزف برودون، كما نشر بعض القصائد ومقالات في مجلات تاريخية تحت اسم كاميل دو نوغيّيه. وكان يمضي معظم أوقاته في "المكتبة الوطنية" القريبة من منزله. وفي أيامه الأخيرة، قرّر بورجا أن يهب جزءاً كبيراً من رسائل اديت بياف الموجهة إليه الى نفس المكتبة وكان ذلك عام 2003 (...).
وفي الخامس من آب، أي بعد حوالي أربعة أشهر على مقتل لوبلي، ها ان اديث التي أمضت حوالي السنة على مقاعد مدرسة "لاكومونال" في برناي قد أصبحت قادرة على الكتابة، أقلّه أن تكتب كما تتحدث وتعبّر عما في داخلها، ومن بين ما كتبت 12 صفحة بعد جولتها في "الأغنية الشابة 1936" وموجهة الى بورجا وكأنها صرخة مدوية عبّرت فيها عن كل أحاسيسها، عن آمالها، كذلك عن علاقاتها الغرامية فكتبت: "غير ذلك، أقول انني لم أعد مع جانو، ولا مع جورج أو مارسيل أو جاك، أردت أن أقطع علاقتي بالجميع لأكون أكثر جدية في عملي ولأفرح والدي العجوز لوبلي، وحين أنتهي سأعود الى باريس وحدي وسأحلف لك على رماد السيد لوبلي وسآخذ معي صديقتي سيمون التي حدّثتك عنها وأعود الى والدي (...) سأضع حداً للجميع، وهل تعرف أن جورج سافل وسأشرح لك مرة أخرى ماذا فعل معي إذ لا مجال لشرح كل القصة في رسالة. أما جانو فيبدو شاباً فتياً وشجاعاً وهو ربما الوحيد الذي آسف لتركه ولكن عليّ أن أفعل ذلك. أنا أشعر بالقرف الكبير خاصة ان السافل الأكبر هو والدي الذي اضطر للعودة إليه.
اعذرني على نوع الورق الذي أستعمله ولكن أنا في سويسرا ولا أحب أن أشتري الورق هنا لأن ذلك سيجبرني على تغيير العملة، باختصار، أكتب لك على هذا النوع من الورق.
بيت مقفل وقريب من "شارع لوريستون"
(بعد أن أصبحت بياف نجمة في الغناء وكان ذلك قبل الحرب، استمرت وعرفت شهرة واسعة خلال الاحتلال، ولم تتوقف عن العمل. في منتصف تشرين الثاني من العام 1942، انتقلت لتعيش مع "مومون" أي صديقتها سيمون التي التقت بها حين كانت تغني في الطرقات).
كان الفندق في "شارع فيلجوست الرابع" (حالياً شارع بول فاليري) الذي نزلت فيه بياف مع صديقتها "مومون" فندقاً مميزاً وقد استأجرت فيه الطابق الثالث والأخير. وكان الفندق بمثابة منزل مقفل وغاية في الأناقة ويملكه أحدهم ويدعى جاك جوسلان ويدعوه الجميع "جو" وكان ممثلاً كوميدياً ومغنياً، فتقاسمت معه بياف ملصق الغناء الذي ظهر فيه أيضاً اسم بول موريس. ومنذ العام 1941، أدارت زوجة جو هذا النزل وكانت تدعى "مدام بيللي"، ولم يكن المكان أقل شهرة من "ايتوال دوكليبر" حيث كانت تجتمع المومسات(...).
هل يصدم مكان السكان هذا؟ بالتأكيد وكلمة "صدمة" قد تكون قليلة. حتى وإن تذكرنا ان بياف الطفلة كانت قد أمضت رغماً عنها سنوات طويلة في "نزل بارني" مع جدتها من جهة والدها، ما جعل جيرتها الأخلاقية تكون في هذا الإطار(...) وبحكم الجيرة، كان النزل يستقبل العديد من الضباط النازيين الذين كانوا يأتون ليرتاحوا "استراحة المحارب" التقليدية.
ولم تكن "مومون" تجد أي احراج بوصف الأجواء "غير الطبيعية" في ذلك المنزل: "الرجال الذين كانوا يأتون الى هنا كانوا من صنف "العمل، العائلة والوطن"...
وكان الطابق الأرضي من هذ الفندق "للتبادل الأوروبي الليبرالي" وكان فيه البار والمطعم والصالون مع بيانو.
أما الطابق الثاني والطابق الثالث فكانا للشقق الصغيرة والغرف المنفردة التي لا تفرغ أبداً. أما الطابق الثالث فكان خاصاً بالآنسة بياف حيث تستطيع أن تستقبل من تشاء وساعة تشاء. ولم تكن تزعجها فكرة أن يلتقي ضيوفها على السلالم سيدات بلباس غير محتشم أو رجالاً في لحظاتهم الخاصة بالاستراحة.
ومع أن هذا المكان لم يكن يشكل لها حلاً جذرياً إلا أنها كانت تعتبره تجسيداً لحلمها (...). وشارع فيلجوست حيث اللقاءات المشبوهة والتجارة المشبوهة هي القاعدة، فهنا لا نحرم أنفسنا من شيء. فالشامبانيا تسيل دائماً بسهولة والأطباق اللذيذة مثل الكافيار الذي تحبه أديث بجنون هي دائماً للزبائن كما للمقيمين.
هل ستنفصل عن سيردان؟
قصة حب بياف والملاكم سيردان كانت أيضاً قصة مشبوهة ويعيشها الاثنان بالحرام: فالمغنية تحلم بأن تسكن نهائياً معه، أما هو فلم يكن مستعداً للتخلي عن زوجته وأولاده في المغرب، رغم حبه الكبير لبياف. وفي ربيع العام 1949، أصبحت علاقتهما متوترة.
- مرة جديدة، تتحول المكالمة الهاتفية بينهما الى شجار قوي. ومارسيل يقود حملته ضد بياف لأنه فهم ان دفاعه الوحيد ضدها هو الهجوم. وفجأة، في السادس من حزيران، قررت بياف أن تدافع عن نفسها: "هل تنبهت الى نفسك كم صرخت بالأمس عليّ على الهاتف! قالت هذا لتستبق الأمور كي لا يسألها عن خروجها المتكرر في 18 يوماً متتابعاً من عرض ايفيت جيرو الى الحفل الغنائي مع داميا وحفل لوسيان بويير الذي عاد وافتتح حانته... ثم عادت للحديث عن السهرة مع غابين: "لقد ذهبت مرغمة وكأنني أقوم بمهمة صعبة إلا أنني كان عليّ أن أردّ له الجميل وبتهذيب لأنه جاء إليّ في بلايل، ولكن حصل ان المسرحية كانت رائعة فأكملت السهرة معه ومع زوجته الحامل (...).
كذلك تقول له اديث انها كتبت أغنية جديدة وتظن بأنها ستنجح ولكنها لا تعطي أي تفصيل عنها مع أنها من الأغنيات التي ستدخل أسطورتها. وفي الواقع كانت تتحدث عن أغنية "نشيد الحب" الخالدة والرائعة.
ومع هذا، لم تترك لنفسها هذه الأغنية بل أعطتها أولاً الى المغنية ايفيت جيروا. هاتان المغنيتان كرهتا بعضهما البعض فترة طويلة لكنهما عادتا وأصبحتا مقربتين.
وقررت ايفيت أن تسجل الأغنية في 16 حزيران. ولكن في الخريف، أي بعد النهاية المأسوية لسيردان، طلبت بياف من ايفيت أن تؤخر صدور اسطوانتها كي يتسنى لها هي تسجيل الأغنية أولاً وكان ذلك في أيار 1950. ولذا أصبحت أغنية "نشيد الحب" وحتى اليوم مهداة الى روح الملاكم سيردان الذي رحل فجأة والذي قالت عنه "هو الحب الكبير الوحيد في حياتي"...
الرسائل التالية ستكون مخصصة لتذكر الأيام التي استطاع العاشقان تمضيتها معاً خلال الصيف. (والصيف كان كئيباً لأنه في 16 حزيران سينهزم مارسيل سيردان أمام خصمه جاك لاموتّا في ديترويت ويخسر لقبه العالمي. لم تحضر اديث بياف المباراة لأنها كانت مرتبطة مع كباريه باريس للغناء). وحين التقى سيردان زوجته وأولاده الصبية الثلاث في كازابلنكا، كانت بياف تنهي في كوباكابانا عقدها الذي انتهى في 4 تموز لتنتقل الى حفلات صيفية ثم تعود الى باريس في 21 تموز لتسجل "أورغن العاشقين" و"لا تبكي" وتطير في نفس الليلة باتجاه... كازابلنكا. مع أن سيردان لم يكن هناك بل في روما حيث يصور دوره في "الى الجحيم الشهرة!" وهي قصة ملاكم يقبض المال مقابل أن يخسر أمام خصمه إلا أنه غيّر رأيه في اللحظة الأخيرة.
فكتبت بياف له: "حين أفكر، يا حبيبي، بالمكانة التي يحتفظ فيها أولادك الثلاثة في قلبك، أرغب في المضي بعيداً عنك وأقول في نفسي انك ربما ستشكرني على ذلك يوماً ما. حياتك مبنية على أساس متين أنت أردته لنفسك لذلك أحياناً أشعر بخوف كبير(...) الى متى سنتمكن من العيش هكذا؟ رسالة من هنا، اتصال هاتفي من هناك، أو مصادفة سخيفة قد تخوننا وماذا يحصل؟... ماذا سيحل بنا؟ ما ستكون ردة فعلك؟
هل فكرت في كل هذه الأمور؟" وبعد أن قدّمت بياف في حفل غنائي لها حوالى 14 أغنية في كاباريه "لاغنغيت" ولثلاث سهرات متتابعة كتبت الى سيردان: "علمت أنك قررت أن تبني فيللا بعشرة ملايين في كازا وانت تمضي كل أوقاتك هنا.. هل ترى هذا ما لا أفهمه وما يقتلني" (...)
(التقى العاشقان في نيويورك خلال شهر أيلول. ثم غنت هي في فرساي، أما هو فكان يستعد لمواجهة خصمه لاموتا لينتقم منه. لكن المباراة الغيت بسبب إصابة الملاكم الأميركي بجرح، فعاد سيردان إلى كازابلنكا في 2 تشرين الأول وترك بياف في نيويورك).
رسالة من اديث إلى جاك بورجا بتاريخ 3 تشرين الأول أي بعد يوم على سفر سيردان عبّرت فيها عن مشاعرها المتأرجحة بين المرارة والغضب: "انها ابنتك الصغيرة والحزينة جداً التي تكتب لك والتي لم تعد تحملك الكثير من الشجاعة. انت تعرف يا جاكو، أنا خائبة، أنا خائبة إلى أقصى درجة، كنت أظن ان سيردان يحبني فوق كل اعتبار وأكثر من كل شيء في حياته ولكن تبين لي انني لست سوى عشيقته وهذا كل ما امثله له، فهو يستطيع أن يبقى ثلاثة أشهر من دون أن يتسبب ذلك له بأي مشكلة مع زوجته، غير ان رغبته بالعودة إلى هناك كانت أقوى من كل شيء، فهو يتخلى عن الوقت الذي هبط علينا مثل الهبة من السماء ليعود. كانت أوضاعه سيئة للغاية مع زوجته وأنا فعلت كل ما بوسعي لأجعل الأمور تعود إلى طبيعتها بينهما، ولكن ما ان تحسن الوضع بينهما حتى ذهب بسرعة إليها، كان علينا أن نمضي 15 يوماً مع بعضنا، وهو رأى ما حصل لي جراء ذلك ولم يهتم (...) لن يتكرر الأمر بأن يحصل ان نمضي سوية مرة جديدة ثلاثة أشهر من دون أن نزعج أحداً، وكان يملك مئة حجة ليبقى بقربي لكني اعترف بأنه حين سيعود لن يكون ذلك من أجلي بل من أجل المباراة فأنا دائماً في الصف الخلفي من اهتماماته وإذا وجد وقتاً لي يفكر بي، وأنا اليوم مقتنعة بأن مارسيل سعيد بالقرب من عائلته وأنا عليّ ان انسحب من حياته بهدوء بدلاً من أن ادمر حياته.
الزواج الأخير
في ربيع 1962، التقت بياف شاباً من أصول يونانية وكان يعمل في تزيين الشعر ويسعى إلى أن يصبح مغنياً. ساندته وبعدها أحبته وكانت تناديه باسم تيو سارابو (أي احبك باليونانية). كان يبلغ 26 عاماً، أما هي فكانت قد بلغت 46 عاماً).
سارعت اديث لتصرح للصحافة حبها الجديد الذي لم تكن تسميه سوى "حب عادي". وإذا كان هو لطيفاً وناعماً وهادئاً، فإنّ تيو الجميل لم يكن منجذباً جنسياً إلى السيدة بياف التي كانت تعرف ذلك ولا تسعى إليه بل إلى إطلاق موهبة هذا الشاب الذي قالت عنه: "انه ليس عشيقي كما انه ليس سكرتيري الخاص، ولكن بعد سنوات ستأتون لتستمعوا إليه يغني في الاولمبيا. وسيكون بالتأكيد قد عمل بجهد ليصل لأنه يملك الموهبة..".

سجلت بياف مع سارابو في ثنائي غنائي اغنية: "ما نفع الحب؟" وستكون اغنيتها الشهيرة الأخيرة لها. وخلال جولة لهما، اعلنت زواجهما. وبدأت حياتهما الزوجية معاً يوم وقعا العقد امام مختار الجادة 14 في باريس وكان ذلك في 9 تشرين الأول. لكن اديث غاسيون أو السيدة دوكو السابقة قررت التراجع عن زواجها منه في اليوم التالي: "ألغوا العقد، أظن بأنني سأبدو مضحكة وسيهزأ الناس مني، فأنا أصلح لأكون أمه". قالت ذلك لسكرتيرتها دانيال بونيل، كما ذكرت ممرضتها سيمون مارغنتان انها تخلت عن الفكرة سريعاً معتبرة ان تيو مجرد "جيغولو يوناني".. وهي اعترفت بأنها أخطأت بهذا الزواج لكنها لم ترغب في التراجع عنه لأن ذلك سيجعلها "مضحكة" أمام معجبيها وقررت السكوت عن الموضوع. وقد ذكرت لمدير اعمالها لويس بارييه بأنها مع ذلك قد وجهت صفعة إلى وجه المجتمع الذي خذلها مراراً (...)
شاركه

عن ABDOUHAKKI

هذا النص هو مثال لنص يمكن ان يستبدل في نفس المساحة ايضا يمكنك زيارة مدونة مدون محترف لمزيد من تحميل قوالب بلوجر.
    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات :

إرسال تعليق

أدب رقمي

حصريات

تكنلوجيا

بالصوت وصورة

سلايدر شو

.

صور فلكر

اخر الاخبار

:إبداع

عالم حواء

عن القالب

صفحتنا

اخر الاخبار