كان السؤال الذي حيرني في البداية
– بعد عزل الرئيس المصري محمد مرسي وقتل المئات من المواطنين الرافضين لقرار العسكر
هو: كيف تجرأ العسكريون على فعل هذا، وكيف سمحت لهم أنفسُهم بالإقدام عليه، وهل وصل
المصريون إلى هذا المستوى من السلبية حتى يقبلوا بـ’فعلة’ قوات الجيش والأمن ويباركوها؟
لكن، بعد مرور الوقت، تحول
سؤالي الأول إلى سؤال آخر: كيف سيفعل الجمعُ (السيسي ورفاقه ومساندوه) للتخلص من متابعات
وشهادات وملاحقات المجازر التي ارتكبها في حق مواطنين، لم يكن لهم ذنب سوى التمسك بشرعية
صناديق الاقتراع ودستور 2012، والمطالبة بعودة الرئيس المخلوع والمخطوف؟
ونظرا للأهمية القصوى التي
يحظى بهما السؤالان السابقان عندي، فقد تولد عنهما سؤالٌ ثالث استحوذ عليّ إلى درجة
أن قررتُ معها كتابة موقفي باختصار من الأزمة التي تعاني منها مصر اليوم. نطرح إذن
هذا السؤال وهو موجه بالدرجة الأولى إلى الفريق الأول عبدالفتاح السيسي: ما هي الغاية
الحقيقية التي استعملتَ من أجل الوصول إليها مؤسسة العسكر المصرية؟ لا تحاول أن تقنع
من يتابع الأزمة المصرية الراهنة بأن الأمر لا علاقة له بقانون ‘الصراع من أجل البقاء’
و’الجلوس فوق هرم السلطة ‘ و’حب السيادة’، فقد عودتنا ممارسةُ السياسة من طرف الزعماء
السياسيين أن نرى أغلب هؤلاء يتعاطون في لهفة وشغف واستعلاء، وانحياز وانغلاق، مع ظاهرة
‘السيادة’ فينسون بسرعة مُذهلة الأهدافَ التي من أجلها اختارهم الشعبُ في صناديق الاقتراع.
إذا كان لا بد من الإدلاء بملاحظة
تنبُع من صلب الفلسفة السياسية، يمكنها أن تساعد على قراءة واستيعاب العملية السياسية
في أبعادها الإنسانية الدقيقة، وما يترتب عنها من مسؤوليات أخلاقية واجتماعية جسيمة،
فإننا نعتقد أن جوهر الظاهرة السياسية وسر نجاح من تعامل معها من الساسة القلائل (مانديلا
الافريقي ولولا البرازيلي مثلا) يكمن في المعاني التي تشع من هذه الحكمة البالغة المنسوبة
لغابرييل لاوب (1928- 1998) وهو كاتب وصحافي وناقد سياسي ساخر، بولندي ألماني: ‘العبد
هو من يطمح الى أن يكون سيداً لا أن يكون حراً’.
والحالة هذه، ماذا يريد قادة
الجيش عموما، والفريق عبدالفتاح السيسي خصوصا، بما أن كل الأنظار متجهة نحوه، ولا كلام
للإعلام والشارع إلا عنه، كزعيم يحبه المصريون؟ بما أن التسابق نحو كرسي الرئاسة بدأ
فعليا منذ اللحظة الأولى التي عُزل فيها الرئيس محمد مرسي، هنا نطرح السؤال الفلسفي
السياسي على السيسي: هل تريدُ حقا أن تكون مصر دولة مستقلة وحُرة، ومن ثَم أرضا آمنة
مطمئنة، أم تريد أن تكونَ سيدا عليها؟ لا يمكن لشخصية مصر الجماعية أن تتطور وتتحرر،
أن تطلق عنان خيالها وإبداعاتها، أن تقوم بقفزات نوعية هائلة في مجالات الفكر والثقافة
والعلوم والفنون، والاقتصاد والاجتماع، وهي قادرة على ذلك بكل تأكيد، إذا كانت السلطة
السياسية في يد من يحلم أن يكون ‘زعيماً’ أو يريد أن يكون ‘سيداً’، على المصريين. يستحيل
على عبقرية مصـــر التاريخية أن تعاود الكَرّة فتنبثق عن مشاريع مستقبلية واعدة، وتأخذ
مبادرات جريئة وترمي بنفسها في خضم الديناميكية العالمية والمنافسة البناءة، إذا كان
الحاكم عليها يُقيّدها بشروط ‘الأبوية’ التي هي ‘نوع من الاستبداد بالسلطة’، حسب الفيلسوف
الألماني إيمانويل كانت.
‘أن أكون عبداً أو حرا’، هذه
هي النقطة التي يلزم على كل شخصية مصرية تمارس السياسة بمعناها النبيل الشريف أن تنتبه
إليها بقوة، لأن فيها تحذيرا لافتا لكل من يخلط بين ‘سيادة الدولة’ و’سيادة الحاكم’،
فردا كان أم حزبا. السيادة السياسية الأولى تتمثل في الدستور والمؤسسات والقوانين الساهرة
على تنظيم حياة المواطنين، ومراقبة واقع حقوقهم وواجباتهم، والسهر على أمنهم وراحتهم.
والجيش كما الأمن مؤسستان من مؤسسات الدولة التي لها ‘السيادة العليا’ (سيادة فوق كل
سيادة أخرى)، ولا يمكن لهما أو لواحدة منهما أن تستولي على السلطة وتسيّر الدولة وفقاً
لرؤيتها وأهدافها ومصالحها، لأنها، إن فعلتْ ذلك، تحوّلت إلى ‘سيادة’ غريبة عن ‘سيادة
الدولة’ أو فوقها، ويمكنها آنذاك أن تخلّ بالسير العادي لآليات الدولة الدستورية والقانونية
والمؤسساتية. هذا النوع من السيادة لا يمثل إلا نفسَه وأنصاره، وهو يتعارض مبدئيا وواقعيا
مع المصالح الوطنية الجماعية. لا مكان للآخر والآراء الأخرى في دائرة هذه السيادة لأنها
سيادة الحاكم على الدولة، وعلى المواطنين أيضاً. إنها شيء مختلف تماما عن سيادة الدولة،
إذ هي مطلب فردي، ومنزع شخصي أو حزبي مسكون بهاجس الذات والأبوية والزعامة. ولا يمكنها
أن تكون مطلباً شعبياً إلا في حالة واحدة استثنائية، إذا كان الشعب قد خضع لعملية غسل
المخ بطريقة مضبوطة ومُخَطّط لها عن طريق البروباغندا وفبركة سجل من الإنجازات والنجاحات
والأفكار والأدلة التي تصب في صالح من يسعى لأن يكون ‘سيداً’.
‘أن أكون عبداً أو حُراً’،
هذا هو السؤال المصيري وهذه هي إشكالية أم الدنيا الرئيسية، وهي إشكالية مرشحة للتعقيد
أكثر فأكثر في ظل تطورات المشهد السياسي والاضطرابات الاجتماعية والتقهقر الاقتصادي
وتراجع الاستثمار والسياحة. خصوصا أن بعض عناصر الإجابة عليه بدأت تقول باحتمال سقوط
مصر في مصيدة " العبوديّة " التي تروّج لها مقولةُ المنقذ، أي الزعيم المنتظر
الذي سيخلص المصريين من الظلام والظلامية.
منذ عزل الرئيس الشرعي مرسي،
والسيسي يستدعي شرعيةَ الشعب ويستعين بها في خُطبه وخِطاباته للرد على من يتهمونه بـ’
الانقلاب على شرعية صناديق الاقتراع والدستور’، وكان يقول في تصريحاته الأولى بأنه
لا يريد لا ناقة ولا جملا، مما أقدم على فعله، وانه خادم الوطن والمصلحة العامة وليست
له أطماع سياسية، وانه لن يتدخل في شؤون الدولة. وكم من مرة وهو يتوجه إلى الشعب في
خطبه اغرورقت عيناه بالدموع، وكم من مرة وهو يخطب في بلاغة إنشائية عاطفية استعمل أسلوبا
يستمد قوته من قاموس الدين، لكنه في الأسابيع الأخيرة عدل من لغته ومواقفه، فصرح في
مقابلة بخصوص ترشحه للرئاسة بأن الأمر فيه احتمال. وقال ضابط كبير في الجيش، حسب ما
تناقلته الصحفُ العربية عن وكالة رويترز بتاريخ 24 تشرين الاول/أكتوبر 2013، ‘كان
(السيسي) يقول من قبل: لا يمكن. الآن يقول: فلننتظر ونرى..’.
ومن الطبيعي أن يغير الرجل
في أقواله ومواقفه، وقد بدأت شعبيته تغزو أكثر فأكثر قلوبَ عامة الناس من المصريين.
كيف لا وهو الذي هيأ الظروف المناسبة لإنتاج صورة إيجابية له بحشد الإعلام الرسمي وحلفائه
وأنصاره وجزء من الشعب لخدمة مشروعه السياسي؟
صحيح أن الكثير من المصريين
صدقوا السيسي وصادقوا على سياسة النظام الملتف حوله، لكن شريحة واسعة ممن صدّقَتْه
ووضعت ثقتَها في العسكر والأمن تنتمي إلى الطبقات الشعبية الساذجة العاطفية التي كانت
خطبُ السيسي وما زالت تتوجّه إليها. إن الأمر يتعلق بأناس لا شك أن بعضهم طيبون وأيضا
صادقون في أحاسيسهم الوطنية ويتفانون في حبهم لكبار الشخصيات السياسية والعسكرية، لكنهم
يُعبّرون من خلال انفعالاتهم العاطفية عن مواقف يمكن اختصارُها في ردود الأفعال الساذجة
التي تبقى بعيدة عن الفكر واستعمال العقل واعتماد التحليل والتفسير، بالرجوع إلى العلل
الخفية والوقوف على الأسباب الحقيقة الكامنة وراء الأحداث الكبرى. مستحيل أن يُنتَظَر
من هؤلاء أن يكونوا حياديّين أو يُطلَب منهم أن يتحلّوا بالموضوعية. وليست المشكلة
هنا هي الذاتية في حد ذاتها إن صح التعبير، فكل واحد من بني البشر يصدر أحكاما ويعبر
عن أفكار ويتخذ مواقف انطلاقا من ذاتيته، ولا يمكن لأحد منا أن يتخلص من اِفتاءات فرديّته
وتوجيهات أناتِه لأن جوهر الحرية الإنسانية رهين بوجود هذه الطاقة النفسية واشتغالها
الوجداني.
إنما المشكلة موجودة بالضبط
في الكيفية التي تتمظهر من خلالها ذاتيةُ الإنسان أو في شكلِ الحالة التي تتجلى فيها
أو عن طريقها. وذاتية المصري الطيب هي محط اهتمام كبير من طرف الأحزاب السياسية والجماعات
الدينية والنقابات العمالية والجمعيات الحقوقية، لأنها توفر لهم إن نجحوا في استقطابها
إليهم رصيداً إنسانيا وصوتيا لا يُستهانُ به، رصيداً يمكن تجنيده بسهولة في الدفاع
عن أفكار الفرقة التي انضم تحت لوائها، وخدمتها بحماسة مَن يعتقد بمركزيّتها وسذاجةِ
من يثق بصواب وصلاحية أُحادِيَتها. فلا عجب إن اتخذت هذه الذاتيةُ سبيلَ الغلو، واتسمت
بالمبالغة المفرطة عند التعبير عما أصبحت تراه صحيحا سليما ومستقيما.
هذه الذاتية المصرية التي وضعت
ثقتَها العمياء في السيسي وشخصيات نظام الحكومة المؤقتة الحالية غالبا ما تتكلم - كما
تُظهِرُ ذلك وسائل الإعلام – عن السيسي في انفعال لافت، يدفعها إلى تقبيل صوره والنظر
إليها بإعجاب وإكبار والتفوّه أمامها بعبارات فيها من التبجيل والتعظيم ما يجعلها تكون
شبيهة جدا بألفاظ الصلاة ولغة الطقوس التعبدية.
هنا يحضرني حديثٌ دار بيْني
وبين جاري المصري، صاحب محل مأكولات خفيفة وساندويتشات، غداة ارتكاب مجازر فض اعتصامات
رابعة العدوية والنهضة في القاهرة بتاريخ 14 آب/اغسطس 2013 . الرجل سريع الكلام والانفعال
وقليلا ما يسمع من يتكلم معه، ورغم مستواه الثقافي المحدود أو المعدوم فهو يدعي ألا
شيء يغيبُ عنه أو يخفى عليه، ويكرر ما يراه على القنوات الفضائية المصرية الرسمية ويسمعه
من الناس. لا يقرأ الكتب والصحف والدوريات العربية وغيرها، ولا يتابع ما يحدث في مصر
والعالم على الانترنت، ومع كل هذا كانت عادتي حين أجد نفسي أمامه أن أستمع إليه وهو
يتكلم ثم أوافقه الرأي في انتقاداته لسياسة حكومة مرسي وأخطاء هذا الأخير، وعودة الفلول
من أنصار نظام مبارك، وانتشار الفوضى والبلطجية وأطفال الشوارع .. لكنه لم يفهم موقفي
الفكري المتحفظ من عزل الرئيس مرسي والرافض للانقلاب، وتجرأ علي فرماني بالعديد من
العوائق والسلبيات في رؤيتي للشأن المصري، ومنها السذاجة وعدم معرفة ما يقع في مصر،
بل استشاط غضبا حين ‘نددتُ’ بمذبحة ميدان رابعة العدوية وإراقة دماء المئات من المواطنين
المصريين، وقال لي: ‘هم قتلوا أنفسَهم’. ولَما طلبتُ منه أن يجيبني حول ما إذا كان
يبرر قتلَ الأبرياء من نساء وأطفال وفتيات وشبان، رد علي في عصبية وبسرعة البرق الخاطف
قائلا بصدد السيسي: ‘دا هدية السماء لمصر.. خلاص’.
هنا يحضرني أيضاً كلامٌ للكاتب
الأمريكي سطيفان كينك يقول فيه بأن ‘ثقة البريء والساذج هي أحسن قوام الكذاب’. لا نعتقد
أن سطيفان كينك يقصد بالكذاب هنا ذلك الفرد العادي الذي يلجأ للكذب لإنقاذ نفسه وعياله
أو أشخاص ما من الموت أو الجوع، أو لتجنب خطر أو ضرر ما يحيط به وبمن يوجد في محيطه.
بعبارة أخرى، ليس المقصود بالكذاب هنا هو ذاك الضعيف المهدد الذي يحتل موقعَ المدافع
عن النفس فيضطر- قصد النجاة من مخالب القوي الغاشم الفتاك – إلى خرق محذور الكذب. يبدو
أن الكذاب المعني بكلام سطيفان كينك هنا هو ذاك الانسان الذي يشغل وظيفة ‘المهاجم’
البراغماتي الملتف الساعي إلى تحقيق غايات شخصية ومصالح الجماعة التي تسانده. هذا النوع
من الكذابين لا يتردد في استخدام كل الوسائل لبناء ما يطمح إليه من ثراء مادي وشهرة
شعبية وصورة أسطورية. وقد أرانا التاريخُ نماذجَ كثيرة منها في المجال السياسي لعبت
بالقيم والقوانين، واستهزأت بحياة الشعوب وغدرت بالأوطان في سبيل التاج والصولجان.
عندما يرى كثيرون في مصر أن
السيسي هو المخلّص الذي أنقذ البلاد من الظلام، وعندما يحبّونه لأنه متديّن، وعندما
يتفهّمون أو يُؤيّدون ارتكابَ " مجازر" في حق مواطنين مصريين لم يكن ذنبهم
إلا الاعتصام من أجل التعبير عن رفضهم لِما رأوه انقلابا على شرعية الرئيس المنتخب
ديمقراطيا، وعندما يُسمّون " فعلتَه " ب " الجْميل " ويطلبون منه
أن يستمرّ في نفس الخطّ (قائلين " كمّل جميلك ") ويرشح نفسَه للانتخابات
الرئاسية حتى يمكنه أن يجلس على كرسي " السيادة " فيكون " سيّداً
" على مصر .. ألا يحِقّ للباحث المتقصّي للحقائق، وللعارف بخبايا السياسة ودهاء
الساسة أن يتساءل: أو لم يكن كلُّ هذا قد خُطِّطَ له من قبل في الخفاء، بمهنية عالية
وبرودة دم؟
0 التعليقات :
إرسال تعليق