"فيلم عز العرب العلوي: "اندرومان من دم وفحم
الوشمة" التي احتُفِيَ بها تحت صرير الكليشيهات السوسيونقدية" إدريس القري
اندرومان٬ من دم وفحم..."وشمة" أخرى،
مختلفة طبعا، تنضاف لمتن الأفلام المغربية؟
لعل الكتابة عن المخرج المغربي الشاب عز العرب العلوي
المحارزي ستفرض، من الوهلة الأولى، الانطلاق من ما يميزه عن غيره من المخرجين
السينمائيين المغاربة. يتمثل هذا التميز بالأساس في أن هذا المخرج آت من بوابة
الأدب والتدريس الجامعي إلى ميدان الفن السابع. حصل عز العرب العلوي المحارزي على
درجة الدكتوراه
نعتقد أن هذا الفيلم الروائي الثاني للمخرج عز العرب
العلوي المحارزي، مونوغرافية سوسيوروائية بنكهة جديدة في بنيتها السردية بصريا،
تقليدية في تيماتها فكريا، مع بعض
"الإشراقات" اللغوية سينمائيا تجعل أحلام جيل السبعينات تنبعث من
رمادها في رداء جمالي جديد لا أعتقد أن
فيلم عز العرب العلوي مجرد إدانة تتكرر مرة أخرى – كما ألفنا ذلك مع أغلب أفلام
السبعينات والثمانينات المغربية من "رماد الزريبة" إلى
"ضفائر" جيلالي فرحاتي مرورا
"ليام اليام" للمعنوني ، الخ - لأوضاع أضحت معروفة ومُلخصة في كلمات
فقدت "بريقها الدلالي": الذكورة المتسلطة، دونية المرأة، الطفولة
المغتصبة، العالم القروي المهمش والمعزول، التخلف الفكري وسلب الحقوق الأساسية،
التفاوت الاقليمي الصارخ، الفهم التبسيطي الخطير للدين، كما لا أعتقد أن الفيلم
تعبير عن "وجود إنساني خارج التاريخ" –
إحجام المخرج عن تحديد زمن لأحداث فيلمه تلميح فني إلى توقف زمن آخر هو زمن
التنمية والتحديث والتمدين الذي يتحول إلى لازمن بمعنى ما تحت وطئة غياب التطور -
فكل جماعة إلا ويندرج وجودها في تاريخ معين، يقترن بمكان ما وإن في الوطن الواحد.
إن فيلم "أندرومان، من دم وفحم"، حكاية سينمائية محورها الخفي والحقيقي
هو إرادة الإختيار الانسانية تحت ضغط أحوال معيشية قصوى: فبين اختيار الأب
المعاناة الشديدة والقاسية ليوميٍ شظفٍ، وعدم اللجوء لضرورة "قتل الأب"
ليستطيع التحرر من الإرث الثقيل للإحساس بالذنب تجاه تربية تدوس الأنا في
استقلاليتها، من أجل "التقليد" والموروث الثقافي الجامد من كل تطور
(لاحظ انهيار قوة وجبروت شخصية أوشن بمجرد مواجهته لأبيه)، وبين صمت وقسوة تعابير
وجه "أندرومان" المُضمرة لرفض يتعاظمُ خُفية لينفجر في النهاية ثورة
عارمة لتصحيح الأمور لنصف المجتمع، حسب "قوانين لعب متفق عليها" (يبدو
المخوج هنا مغربي التفكير من حيث قضايا ما سمي بالربيع العربي ولو لا شعوريا فهو
يراهن على حل بالتوافق والاصلاحات بين الفرقاء …) بين اختيار الأب والإبنة = ضحيتا
بنية من انتاج البشر، وهذا ما لا يشير اليه المخرج والسيناريست ولو من بعيد = تبدو
الحكاية السينمائية في نهاية المطاف صدى مقنعا بعض الشئ، لراهنية لم
"يراودها" المخرج بشكل عصري من حيث الحكاية، بل "غازلها"
بحكاية تقليدية "اللباس" والإخراج.
أهو اختيار واع أم تهرب اختياري أم أنني أمام تأويل لا يستقيم: تحل الكاميرا في فيلم عز العرب العلوي
بحركيتها - بطؤ تتالي التصاميم المطولة دون بذخ ميكانيكي الحركة يُذكر -محل
تعبيرية تقاسيم جسد أندرومان، وهو بوح بما يختبؤ من غضب ورفض تحت جلد محياها
الأنثوي المكفن، منذ عقيقتها، في إملاق أسماله وفي نظرتها الباهتة-القوية وفي
خديها المثقوبان صياما عن السعادة، ومسحة الحزن الدفينة المستغرقة للنظرة الثاوية
خلفها شهوة الأنوثة الغامقة فحما. مقابل هذا التجميع والتكثيف الدرامي الذي انفجرا
سيلا على صهوة الجواد الأبيض - لا دما ولا فحما - هناك قسوة الأب التي ليست سوى
تنفيسا اسقاطيا عن ما ترزح تحت ثقله
ذكورته المحرومة ولدا وزوجة وبالتالي اعترافا من أقرانه، بسبب ثقل التقاليد ،
فتراه طيلة الفيلم يحمل وزره وضميره تحت أفق مسدود (لقطة بكاءه المر عند موت
صغيرته مغلقة فوق الشجرة وندمه الذي لم يوصله حد "قتل الأب" رمزيا، حيث
قدم لنا المخرج الثقافة التقليدية وشراستها من جهة، وانعدام الدعم منعا لتمرد
ولفاعلية لن تأتي إلا من تحت عباءة عقلية تقليدية فقيه! إمام لا يخرج القرية من
دائرة التقليد إلا تنور فكره النسبي: فهل
أخاف من التلقي العامي لهذه النهاية يا عز العرب؟
أما موت الحليف الطبيعي لأوشن الأب "المعذب فوق الأرض" فقتله
المولف المخرج ويا للمفارقة بصور جميلة بطيئة وموسيقى تصويرية حفوت المأساة أكثر
على الطريقة الكلاسيكية تعبيريا وهو ما ينتظر نجاحه على مستوى التلقي العامي
للفيلم. إنه فيلم يدعو في نهاية المطاف
– ربما دون وعي مسبق وتصور جمالي مخطط له سلفا؟ - يدعو إلى الاختيار الإرادي
الواعي وتحمل نتيجته: فالبطلة أندرومان (جليلة التلمسي)، عندما "تمتلئ"
بوجودها القسري – بالمعنى النيتشوي مقلوبا، وترتوي حد الغثيان من ثقافة مُجترة
بتقهقرٍ مُستمر ضدا على قوانين التطور، تحمل جسدها، المقهورةِ رغباتُه، وأنثويتُهُ،وأبسط
تعابيرها اليومية المخنوقة أصلا بالمنطقة السوريالية\الواقعية، تحمل جسدها على
صهوة جواد أبيض (كان الفرس خلال السرد ومنذ البداية مطية الأمل نحو الانعتاق،
دائما جاهزٌ قربها) من خلال صور، تصاميم، عامة مقاومة لسوداوية الوضع باتساع
واخضرار طبيعتها، تحتفي بالمطية وبراكبتها وسط هالة يانعة شامخة أشجارها الأطلسية
بتاريخ زاه مُغنٍ لبلد أصيلٍ (بساطة وجمالية الإخراج والتصوير معا) لتختطف، من على
ظهره، تختطف من التسلط والتكلس الذكوري الأرعن، الضحية أيضا، (إذ الذكورية في
الفيلم لن تكون لها أي صبغة أو صيغة تجديدية سينمائيا في طرحها خارج مشهد مجئ
السلطات إلى القرية لانجاز الهويات وطريقة معالجته الذكية، وخاصة تتالي لقطات صور
الهوية لسكانها التي تشبه صور آوائل ضباط الشؤون الأهلية لمواطني المغرب
"الطيبين السذج" وبالتالي، مجرد ضحايا لوضع "سوريالي" القسوة)
تختطف منه ومن القبيلة ومن رموز التسلط الذكوري، "زرقة" (العلم المحدد
لنهاية مسافة السباق الذي بدى في تصميم مكبر برفرف بايقاع متباطئ وكأن المخرج يسجل
اللحظة في ذاكرة المتفرج ويلح على بيداغوجية ترسيخها بالصورة كلحظة تاريخية من جهة
أخرى) وأملا وآفاقا مفتوحة على غد أفضل. تفوز البطلة بالسباق إذن وتنتصر لعقدة قتل
الأب التي لم يتخطى باب سجنها "أوشن" (أدى الدور بروعة عالية محمد خيي):
ألا يحيل كل هذا على مسار المغرب اليوم وبالتالي فحكاية الفيلم تجري وترسم أحداثها
ومسارات بيوغرافيات داخل زمان ومكان حقيقيين، ربما فقط بجلابيب مكسوة بسواد الفحم،
سواد الواقع "السوريالي" لضرورة فنية؟ أنه تغيير أوضاع اجتماعية وثقافية
نحو فك العزلة عن "عقل عاطل عن التفكير"، وهو تغيير لا تضاهي انجازه إلا
سماقة أشجار الأطلس التي شهدت، في الفيلم، على تطور حتمي لن تقوده وتفتح أبوابه،
بشجاعة وتصميم، إلا النساء المصادرة حقوقهن، بدعم وتواطؤ جميل من رجال لا يهم إن
كانوا متدينين أم لا (الفقيه والشاب المقتول) ذلك أن الإنخراط في القيم النبيلة لا
هوية ضيقة له كضربة المعول على جذع شجرة …تبصم دون أن تقصم، اللهم من حكاية تمجد …
بتصميم ضيق وكلاسيكي في اللغة السينمائية، حملا للهمة قصد استرجاع حرية مغتصبة ،
ووفعا لهامة مخطئ من ركن إلى أن الصمت دليل على انكسارها.
0 التعليقات :
إرسال تعليق