| ||||
جنى فواز الحسن
أحدثت جائزة البوكر تغييرا كبيرا في عالم الرواية العربية والتفاعل معها، وهذا فضل لا يمكن إنكاره، إذ إن مجتمعاتنا تبقى عالقة أحيانا في أوهام النخبوية الثقافية أو بين براثن أفراد وجماعات يريدون احتكار المشهد الأدبي.
ما فعلته الجائزة العالمية للرواية العربية وما تستمر في فعله هو إحداث هذه الصدمات الإيجابية في الواقع الأدبي، وهي إيجابية من ناحية أنها تكسر التوقعات وتقدم رؤيتها الخاصة والمنفردة، وبالتالي تخرج عن القيد الثقافي الاجتماعي.شعر البعض أن البوكر تعدت الكتاب الكبار، وأثارت الاستياء وسط محافل ثقافية ترى أن لا مكان لنبض جديد في عالم الأدب. لم تنتبه أن هذا الضخ للروائيين الجدد أمر طبيعي وأن عجلة الأيام تدور وأن كل كاتب كبير انطلق من عمل ما ليستمر في مسيرته. أحس بعض الناشرين بالخيبة وشعر آخرون بالفرح لرهانه على كتاب جدد. ولكن يبقى الأمر الثابت الحقيقي أن جميع دور النشر ما زالت ترسل ترشيحاتها للبوكر وتأمل أن تكون الأعمال المطروحة في لائحتها، وهو اعتراف غير مباشر بمصداقية الجائزة.
تحوّل البوكر الكتاب العرب في مرحلة من المراحل إلى نجوم، تغرقهم بالاهتمام وتثير فضول الإعلام حولهم ويصبح لهم منبرا للتعبير عن أنفسهم وعلاقتهم مع الكتابة ورواياتهم ومسيرتهم الأدبية. تضعهم في الواجهة، وتحصد لهم الاعتراف بجدارتهم، وتثير أيضا الانتقادات حولهم. هذا الحراك أشبه بإماطة اللثام عن الكتاب، وهو أمر إيجابي، إذ إن هذا النوع من الاهتمام مفقود في العالم العربي. ولكن الجوائز لا تصنع كاتبا، إنها مكافأة مؤقتة وتقدير لطيف في وجه التحدي الأكبر الذي هو الكتابة وسؤالها الذي لا ينضب، إنها محطة لا أكثر ولا أقل. الجوائز لا يجب أن تكون أيضا المعيار الوحيد للأدب الجيد، إذ قد تكون هناك روايات كثيرة لم تجد بابا للترشح مثلا أو حتى أحيانا للنشر. هل يصبح الكاتب الذي ورد عمله في اللائحة الطويلة أو القصيرة أسيرا للبوكر أو للرغبة في أن يحافظ على مكانته فيها؟ ربّما إن جردنا الكاتب من صفات مثالية كالترفع عن الجوائز وإنكار الذات في سبيل النتاج الأدبي، تكون الإجابة نعم. الكل يطمع بالتقدير، وهو حق مشروع، والمنافسة إيجابية طالما أنها لا تخرج عن إطار المعايير الأدبية. ما يهم فعليا هو أن يبقى العمل الأدبي نقطة التركيز. الوقت الذي نمضيه في الكتابة مختلف كليا عن الوقت الذي يلي النشر. التحدي الحقيقي هو أن نجعل من البوكر تحديا ولكن ليس قيدا. هذا من ناحية علاقة الكاتب بالجائزة. السؤال الذي يأتي بعد ذلك هو من يهتم بالكاتب بعد البوكر أو الكاتب خارج نطاق البوكر؟ من يتولى عنه مهمة تسويق العمل وإبرازه إن كان يستحق هذا الاهتمام؟ أين الجهات الثقافية الّتي تتفاعل مع الكاتب وتفعل تواصله مع القراء؟ لا شك أنها نادرة في عالمنا العربي أو مهمّشة، لأن الثقافة والأدب تحديدا ما زال خارج ما نعده من "الأساسيات" في مجتمعاتنا كما يجب أن يكون.
أما عن تجربتي الشخصية، فما يمكن قوله هو أن الترشح للقائمة القصيرة في باكورة أعمالي طمأنني أن الكتابة تشق طريقها إلى الناس. أن تعرف أن هناك لجنة قرأت العمل وميزته أمر مشجع. ولكن هل يجعلك أكثر نجاحا؟ تؤمن البوكر الانتشار ولكن ليس النجاح. لا تؤثر على علاقتك الشخصية بعملك ولا تثنيك عن الخوف الملازم للكتابة بل ربّما تعمّقه. سؤال الكتابة خارج إطار البوكر مؤرق، السؤال عن جدواها، تفسيرها، كيفية احتلالها لحياتك، هاجسها. هذا السؤال منفصل عن أي جائزة. هو السؤال المتصل بالحياة، السؤال العاري الذي تطرحه على نفسك وأنت خارج كل هذا التفاعل مع الآخر. السؤال المتصل بالرواية تحديدا، بالأشخاص الذين تختلقهم وتعيش معه فترة طويلة، من هم؟ هل يصبحون حقيقتك؟ هل جسدتهم كما يجب؟ هذه الخصوصية الّتي تتركك في دهشة وحيرة منك ومنهم، هل أنت من يستحق جائزة ما بعد نشر الرواية أم هم؟ وبالتالي هنا نسأل: هل البوكر تختار الكاتب أم عمله أم شخصيات رواياته وزمنهم؟ هل البطل الحقيقي هو الكاتب أو موضوع الرواية أو بطلها أو بطلتها؟ جميع هذه الأسئلة المطروحة لا تبحث عن إجابة مؤكدة بل تكتفي بذاتها لأنها تبحث فعليا عن التفاعل وعن إثارة الجدال، تفاعل نجحت الجائزة في خلقه. _______________ روائية وكاتبة لبنانية
المصدر:الجزيرة
|
-
تعليقات بلوجر
-
تعليقات فيسبوك
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة
(
Atom
)
0 التعليقات :
إرسال تعليق