من أفلام
مهرجان برلين في دورته ال 64 :
"الشقيقتان المعشوقتان" أو عودة الحب إلى
برلين
برلين : من محمد
نبيل *
خاص بالموقع
الجمع بين الشعر والعشق
و الحب هو في حد ذاته مغامرة فنية في مجال الفن السابع، و سندها الأساسي هو لغة الصورة.
رهان المخرج الألماني "دومينيك غرافس" في فيلمه "الشقيقتان
المعشوقتان" يثير الكثير من القضايا في علاقة الشعر بالحياة، و سلط الضوء على الكثير من
النقاط في حياة الشاعر الالماني الكبير "فريديريش شيلر" .
قصة شاعر بين
الواقع و الخيال
يحكي الشريط عن جزء من حقبة
تاريخية بطلها الشاعر "فريديريش شيلر" الذي أحب حبين، و حبه كان
لشقيقتين، وهما شارلوته وكارولين . الحكاية يمتزج فيها الخيال و الواقع، ما جعلها أكثر
جمالية و فنية.
تنتمي الشقيقتان إلى
أسرة من الأرستقراطية الألمانية، وعاشت في أواخر القرن الثامن عشر، لكن بعد وفاة
والدهما و تغير الاوضاع المادية للعائلة سيتم التضحية بكارولين، وتزويجها كزيجة لرجل
ثري وليس في إطار علاقة عاطفية ضمانا لبقاء الأسرة وعدم اضطرارها
لـ"التسول" كما عبرت عن ذلك أم الشقيقتين.
الجمع بين الحبين و الأختين
سيجلب للشاعر متاعب نفسية ذات بعد درامي ما أضفى على الفيلم جمالية و مسحة فريدة.
170 دقيقة هي مدة الشريط الذي يروي حكايات شيلر في حقبة تاريخية كان فيها الحرف و
الشعر و الابداع يحتل مكانة مهمة داخل المجتمع . إنه عصر الأنوار و الفكر و الخلق
و الجدل بخصوص قضايا الحرية و المرأة. وفي هذا الزمن الجميل وتحت تأثير أفكار عصر التنوير، كتب شيلر مسرحيته الأولي "اللصوص"
. نص مسرحي يتجسد فيه الرفض المطلق للاستبداد والنزوع نحو الحرية الإنسانية و
التحرر من الاضطهاد والظلم الاجتماعي.
لهيب الغرام و العشق الممنوع
الشريط يروي الحكاية بالصورة
و بسرد يأسر المشاهد دون أن يسقطه في روح الملل و الاطناب . تنظر شارلوته إلى كارولين على أنها صاحبة التضحية الأكبر
في حياة الأسرة، وتشعر بأنها وأمها مدينتان لها، وعندما يقترب شيلر، - هذا الشاب
الفقير كما وصفته أم الشقيقتين - من شارلوته، تقع كارولين (المرأة المتزوجة) في
حبال الغرام وسيبادلها الشاعر نفس شعلة مشاعرها الملتهبة، لكن شارلوته تحب الشاعر
و ترى بأنها الأجدر به وتسعى للاقتران به بالرغم من معارضة والدتها لهذا الزواج
الفاشل مع شاب فقير لا مستقبل أمامه. لكن دهاء كارولين سيمكنها من إقناع أمها
بتزويج شارلوته إلى شيلر، الشخص الذي
سيكون قريبا منهما معا .
مع توالي الوقائع ستصير العلاقة بين شيلر و الشقيقتين أكثر
تعقيدا ، و ستتداخل أحداثها بشكل درامي و مثير، فشيلر المتزوج يظل عاشقا لشقيقة
زوجته كارولين في وقت تهجر شارلوته الشاعر قبل أن تغادر كارولين البيت لسنوات عدة خلالها
ستنجب شارلوته من شيلر أربعة أبناء، لكن لهيب الغرام و العشق الممنوع سرعان ما يعود
لتستأنف كارولين علاقتها بشيلر الشيء الذي أدى الى طلاقها من زوجها .
لعنة الغيرة و شغف الرغبة و نار العشق ستفجر الصراع بين
الشقيقتين بعد أن تخفي كارولين عن شارلوته ما تفعله مع شيلر. صراع فيه من العقد
النفسية ما يكفي كي يصير مواجهة عنيفة بينهما و كل واحدة منهما تقول هي الأجدر
بشيلر .
كارولين شخصية فريدة من نوعها . بدأت فعل الكتابة بفضل احتكاكها
بشيلر فأصبحت تنشر ابداعات نصوص رواية رومانسية أثارت شهية القراء الألمان آنذاك
وهم يتابعون مسلسلا يمتزج فيه الخيال و حياة الكاتبة. كارولين ستنتقل من رجل لآخر
تبيع ما لديها من أجل الحصول على مال يضمن لها مواصلة الحياة والإنفاق على
والدتها.
"الشقيقتان المعشوقتان" شريط يحمل حكاية صراع نفسي عاشه
الشاعر شيلر، و يعبر كذلك عن واقع النساء في تلك المرحلة من التاريخ. صراع انتقلت
عدواه الى الشقيقتين فعصف بحبهما الغريب الخارج عن إطار المسموح به اجتماعيا .
السينما و زمن
الأنوار
ركوب المغامرة العاطفية
لا تحدث فقط في التاريخ الفعلي للإنسان بل تكون كذلك مادة خيالية تشتغل عليها
السينما و تعالجها بطريقة فنية و جمالية . السينما تقول وتضمر أشياء عدة . سؤال
يطرحه كل من يشاهد شريطا من طينة "الشقيقتان
المعشوقتان".
هذا العمل السينمائي
الذي يشارك في المسابقة الرسمية لمهرجان برلين يدفعنا الى مساءلة طبيعة الخلق
السينمائي و خصائصه وواقع السينما حاليا، و رهاناتها في إعادة رسم التاريخ و
استحضاره فنيا و سينمائيا للمحافظة عليه . شيلر شاعر من نوع خاص، و هذا الفيلم يخص
فصولا من حياته الغنية ويكشف لا محالة عن زوايا مهمة تسلط عليها الأضواء سينمائيا
بعد مرور أكثر من قرنين.
السينما تحكي عن قصص
الشعر و الشعراء . هذا الفيلم دليل على هم سينمائي لا يبتعد عن هوس الابداع و شغفه
و نظم القوافي . مشاهدة فيلم من طينة أفلام التاريخ الألماني الفكري و الشعري هو بالفعل
استحضار للذاكرة و محيطها السوسبولوجي ، و كما قالت صحيفة "تاغسشبيغل" اليومية
الالمانية الصادرة من برلين : " الشقيقتان المعشوقتان،
شريط يعبر عن زمن الأنوار".
شيلر و غوته،
لقاء العظماء
يحكي هذا الفيلم عن العلاقة بين الشاعرين شيلر و غوته في
لقاء فريد
يتابعه سكان المنطقة بشغف كبير، وإن كان غوته لم يظهر
في الفيلم إلا من خلال لقطة لا تكشف عن وجهه. وفي فايمار حيث التقي شيلر بغوته،
ربطت بين الشاعرين علاقة صداقة عميقة، كانت من أشهر الصداقات في التاريخ الأدبي.
شيلر تأثر بأفكار غوته كما تأثر جوته بأفكار شيلر. وفي
فايمار وجد شيلر المكان الذي كان يتمناه، فهناك الصداقات الأدبية والأحاديث مع
نبلاء الأسرة الملكية. كما في هذه الفترة كتب شيلر واحدة من أروع قصائده التي لحنها
بيتهوفن فيما بعد في سيمفونيته المعروفة باسم"إلى السعادة". وفي هذه
القصيدة يمجد شيلر الرغبة الإنسانية الجارفة نحو السعادة، رغم الآلام التي تكبل
روح الإنسان.
تتحدث الكثير من المصادر عن مغادرة شيلر لفايمار لأول
مرة ليعمل أستاذا للتاريخ في جامعة يينا، وأصبح بذلك يتوفر على دخل قار يمكنه من
إتمام الزواج بحبيبته شارلوته. وفي عام 1799 عاد الشاعر مع زوجته وأطفاله إلى
فايمار ليعيش فترة إبداعه الزاهية. ورغم المشاكل و الآلام التي كانت تقض مضجعه باستمرار،
كتب شيلر مسرحياته الشهيرة" ماريا ستيوارت" و "عذراء
أورليانز" و "عروس ميسينا" و "فيلهيلم تل".
محنة الشاعر سينمائيا
إمكانيات الفيلم و
الميزانية المخصصة لإنتاجه تبدو معالمها الكبرى في طبيعة الصورة و نوعيتها و تناسق
الألوان و الطاقم الكبير العامل في الشريط، و قدرات المصور في نقل الرموز و
المشاهد برؤية فيها الكثير من العمق، فالصور تنطق بما يقال و ما لا يقال عن
العلامات الممكنة.
هذا الفيلم هو محاولة
جادة و جميلة لاسترجاع الماضي الزاهي لألمانيا شعريا و فكريا بلغة سينمائية لا
تخلو من عناصر الخيال. كما عكس الفيلم الكثير
من المعطيات التاريخية كتطور الطباعة و
كيف وظف الشاعر شيلر هذه التقنية الجديدة في طبع كتبه .
استطاع فعلا المخرج "دومينيك
غرافس" أن يظهر المحنة ، و أقصد محنة شيلر و عشيقتيه في قالب سينمائي مشوق و
جميل فيه الكثير من العناصر الفنية . والكلام عن محن الشاعر التاريخية لا يخرج عن
سيرته الذاتية التي تسجل أنه مات مريضا بالسل
الرئوي وهو لم يتجاوز السادسة والأربعين.
نجح المخرج في تجميل القبيح و تحويل الصورة التراجيدية في حياة شيلر العاطفية إلى
صورة إبداعية بديعة تنطق بالممكن و اللاممكن بالرغم من بعض النقص، مثلا في
إمكانيات الممثل البطل في تقمص و ترجمة شخصية صعبة جدا (شيلر الشاعر و الإنسان). "الشقيقتان المعشوقتان" عمل استطاع الجمع بين
الشعر و الحب و السينما في محاورة فريدة
* صحافي و
سينمائي مقيم في برلين .
.........................................................................
0 التعليقات :
إرسال تعليق