الفارسُ يبدّل سلاحه ويحارب الظّلم بإنسانيته
"قراءة في كتاب "ثورة كردستان ومتغيّرات العصر" لملا بختيار
(شورشي كوردستان وكورانكاريه كانى سه رده م
بقلم: د.سناء الشعلان/ الأردن
selenapollo@hotmail.com
لستُ منظّرة سياسيّة بأيّ حال من الأحوال،ولا يضيرني ذلك،فلي وجهة نظري الخاصّة في شأن السّياسة،ولكنّني أخجلُ بارتباكٍ عندما أعترف بمصداقيّة جريئة بأنّني من جيل عربيّ غُيّب بقصد وسبق إصرارٍ وترصّد عن القضيّة الكرديّة،وضُلّل بكثير من الأكاذيب التّاريخيّة الخطيرة التي سرقتني وجيلي –غالباً – من أن ندرك حجم المعاناة الكرديّة في إزاء ممارسات قمعيّة وحشيّة حرمت هذه الأمّة من يسير حقوقها الطّبيعيّة التي من الإنصاف أن يحصل الإنسان عليها ضمن حقوق مواطنته دون أن يبذل حياته –في كثير من الأحوال- ثمناً لها.ولولا الأقدار الكريمة التي قادتني نحو حقيقة نضال الشّعب الكرديّ،لبقيتُ مثل سائر أبناء جيلي من العرب ومن غيرهم لا أعرف شيئاً عن حقيقة عدالة القضيّة الكرديّة،وأتواطأ مع الظّلم بالصّمت الظّالم،تماماً كما يجهل الكثيرون جلّ الحقائق حول الكثير من القضايا العادلة في هذا العالم،وعلى رأسها عدالة القضية الفلسطينية.
أمّا قلبي وإدراكي فأزعم أنّهما الأكثر حساسيّة تجاه الحقائق والجمال والقلوب الكبيرة والتّجارب العظيمة والبشر الأبطال النّادرين المجبولين بالبذل والعطاء المصنوعين من ماء الثّورة والإباء والتّعاظم على الظّلم والاستبداد والاستلاب،ومن هذا المنطلق أجد نفسي راغبة في تقديم قراءتي الخاصة لكتاب "ثورة كردستان ومتغيّرات العصر/شورشي كوردستان وكورانكاريه كاني سه رده م " للسّيد ملا بختيار،وهي قراءة أحرص بالدّرجة الأولى على أن أطلع القارئ العربيّ عليها ؛فهو في حاجة حقيقيّة إلى أن يعرف الكثير من الحقائق عن عدالة القضّية الكرديّة،وأن يسمعني ويسمع من مناضلي الأمّة الكرديّة بقلبه وعقله وروحه بعيداً عن الأكاذيب العنصريّة الشّوفينيّة المقيتة التي نفثت في فكره ووجدانه،وفي ظلّ ذلك أفخر بأن يطّلع القارئ الكرديّ على قراءتي الخاصة هذه التي أعدّها إطلالة على الكتاب من زاوية خاصة،وهي زاوية الإنسانيّة والعمل الجّاد في سبيل الظّفر الإنسانيّ العادل بالحق بعيداً عن التّضحية بالبشر دون طائل.
الكُرد ليسوا في حاجة إلى أنّ أعرّفهم بملا بختيار؛فهم يعرفونه أكثر مني،ويحفظون مسيرة كفاحه،وكثيراً ما سمعتهم ينعتونه بـ" السّبع" عندما يودّون تلخيص مسيرته ونضاله وخصائصه النّفسيّة،ولكن القارئ العربيّ الذي يثق في قلم سناء الشعلان وحياديته فأقول له إنّه إنسان يتشرّف المرء بتجربته وبنضاله،ولا يستطيع إلاّ أن يحترمه،ويثق في عدالة قلمه عندما يتتبّع نضاله الطّويل الذي قدّم شبابه كاملاً ثمناً له ليغدو رمزاً من رموز الثّورة الكرديّة التي تحتاج إلى أسفار عملاقة لتسجيل تضحيتها والتوقّف عند ملامح نضالها وأعلامها وعمالقة مبدعيها ومفكريها وعلمائها.
ويظلّ الوقوف عند هذا الكتاب هو لحظة انتصار للإنسانيّة في إزاء عالم ظالم،وقضية عادلة ملحّة،وتجربة ثرّة غنية تفرض على صاحبها أن يفيض على الحركة النّضاليّة الكرديّة والإنسانيّة بخلاصة حكمته،ورائق ما توصّل إليه من حقائق بعد مسيرة قاسية من البحث عن الحقّ في دروب وعرة شائكة تخلو من خصم رحيم شريف.
أُتيح لي أن أطلع على الطبعة الرّابعة المنقّحة من الكتاب الذي يقع في 392 صفحة من القطع المتوسط،ويتكّون من تسعة فصول وثمانية ملاحق مثيرة للتفرّس فيها،والتّوقّف مليّاً عندها،وهذه الفصول مقسّمة على مباحث ومحاور عدّة،وهي: كوردو الشّجاع،والشّروط الموضوعيّة والذّاتيّة،والطّرائق المختلفة في حرب الأنصار،وثورة كردستان وخصائص العصر،وتشويه الثّورة،وتوطئة في الإصلاح،والنتائج والمستقبل،والثّورة بين نهجين،والإعداد لثورة كردستان. فضلاً عن احتواء الكتاب على تقديم ووقفة عند تجربة المؤلف والمترجم في خضّم التجربة النضالية تحت عنوان "المؤلّف و ذُكريات نضاليّة" إلى جانب مقالتين لـ"رجائي فايد" و"علواني مغيب"يتناولان فيهما الكتاب من جانب فكري وتنظيري.
ويبدأ الكتاب بسؤال محيّر يقوم برمّته على جدليته،وهو: ما هو الطرّيق الأمثل للنّضال الكرديّ في خضم الظّروف المعاصرة؟أهو ثورة الجبال المسلّحة أم انتفاضة المدن؟ والكتاب يراوغنا بقدر ما نراوغه،ويقدّم لنا الإجابات كلّها قبل أن نطرح الأسئلة،فعندما تغرينا الفكرة التي يطرحها بالجدال والتّشكيك يحاصرنا بالأرقام عبر ملاحق ثمانية أثبتها في آخر الكتاب تحت عناوين:الحركات المسلحة المنتصرة بعد سنوات الحرب العالمية الثّانية, الحركات المسلحة المستمرة, الحركات المسلحة المنتكسة, الدّول التي قامت فيها حركات مسلحة في قارة آسيا بعد الحرب العالمية الثّانية, الدّول التي قامت فيها حركات مسلحة في قارة أفريقيا بعد الحرب العالمية الثّانية, الدّول التي قامت فيها حركات مسلحة في أمريكا الوسطى بعد الحرب العالمية الثّانية, الدّول التي قامت فيها الحركات المسلحة في أمريكا الجنوبية بعد الحرب العالمية الثّانية, ملخص إحصائي بالحركات المسلحة في القارات والمناطق الحيوية في العالم بعد الحرب العالمية الثّانية.فنجد أنفسنا مسلّمين بالفرضية التي تنتصر لانتفاضة المدن والخارجة على ثورة الجبال بعد سنين من انخراطه فيها بعد أن قدّم لنا الدّليل والبرهان المبين عبر المقارنات والإحصاءات الرّقميّة الدّقيقة الكاشفة لاتجاه الثّورات المسلّحة والانتفاضات في العالم في التّاريخ الحديث.
هذا الكتاب يقدّم عرضاً مستفيضاً للثّورات المسلّحة في العصر الحديث بتعالق واضح مع التّحليل والمقارنة والمفاضلة والتفصيل والشّرح والتّوضيح لرسم ملامح الفضاءات المستقبليّة للانتفاضات والثّورات وحروب التّحرير من أجل رسم شكل مفترض للثّورة الكرديّة في خضم معطيات راهنة لا يمكن إهمالها أو تجاهلها،وفي حال حدث ذلك فستكون النّتيجة كارثيّة تنحرف بالثّورة والأمة نحو الفشل والخسارة واليأس.
وهو في هذا الشّأن يسخر بحكمة العارف المجرّب من أيّ أصوات تتجاهل ملامح الواقع،وتنادي بثورة مسلّحة طويلة الأمد،ويعدّها نوعاً من الانتحار في ضوء تغيير الشّروط الموضوعيّة التي تعني استحالة انتصار الثّورة على نظام يفوقها اقتداراً مالياً وعسكريّاً،فهو لا يرى الثّورة مناطحة رؤوس،بل هي وفق تعبيره" تأجيج نيران الغضب المقدّس للجماهير المضطهدة من أجل صهر الرأس الحديديّ لسلطة العدو".
اللافت للنّظر في هذا الكتاب قدرته على الكتابة بجرأة ضد السّائد،وهو يختار طريقاً مغايراً نحو النّضال،ويحوّل دربه في هذا الهدف،وهو نضال انتفاضة المدن.والتّصريح بهذا الأمر هو بمثابة اختيار فضاء آخر مواتٍ للطّيران بخلاف ما يختاره السّرب.وهو اتجاه ليس بالأمر الهيّن،وقد استلزم الكثير من البراهين والحجج والمقارنات والإحصاءات لإقناع القارئ بهذا الاتجاه.الكاتب باختصار يبدّل سلاحه أنّى شاء ما دام هدفه هو متابعة النّضال والكفاح والمطالبة بحقّه،ولكن لا يفرض علينا رؤيته وخلاصة تجربته بل يترك لنا حرية الاختيار.
والكتاب يستعرض الثورات المعاصرة استعراضاً مستفيضاً،ويوازن بين ظروفها ومعطياتها وخصائصها،ويحاول تشخيص أسباب انتصار بعضها،وهزيمة الكثير منها،ثم يقودنا إلى دراسة معطيات الثورة الكردية عبر استعراض ملامحها وخصائصها وظروفها وتحدّياتها،ويقف مليّاً عند الثورة المسلّحة الكورديّة بما لها وعليها،ثم يقف بنا عند ملامح معطيات المشهد الكردي المعاصر،ويلحّ على أنّه ليس من الحكمة والإنصاف والذّكاء الدّخول في نضال جبال مسلّح يفني الكثير من الأبرياء في إزاء تبديد فرص أخرى من النّضال مثل انتفاضة المدن،وهي فرص غدت أكثر ملائمة لروح العصر والمعطيات والإمكانات والآمال.
لقد كتب المؤلفّ كتابه هذا –كما يذكر- بعد أن عاين تجربة نفسيّة مريرة إثر النّكسة العسكريّة التي واجهت الثّورة الكرديّة في العقد الأخير من القرن العشرين(1988-1989)،ثم تدارس الموقف والمعطيات طويلاً،واستغرق مليّاً في دراسة الثّورة الكرديّة في ضوء الثورات المسلّحة التي خاضها العالم في تاريخه المعاصر بعد الحربين العالميتين،وبذلك تمخّض هذا الاعتكاف الفكريّ والتّدارسيّ عن جملة من القناعات والأفكار التي رسم بها درباً جديدة إلى تحصيل الحق الكرديّ عبر نوع جديد مقترح من النّضال.
وهو بهذا الرّأي لا يقلّل من قيمة النّضال الكرديّ المسلّح الذي قاتل تحت رايته لمدة 14 عاماً،وحقّق الكثير من الانتصارات المشرّفة والصّمود المجيد،ولكنّه لم يحقّق غايته كاملة،وقد وجد نفسه الآن أمام تحدّيات كبيرة ومهام مختلفة ومتطلّبات ملحّة تستوجب منه تغيير شكله وآلته ووسائله.
من يقرأ الكتاب يصل إلى أنّه يحترم الثّورة المسلّحة في الجبال،ولكن في ضوء التواجد في المدينة الآن فهو ينادي بالقتال بسلاح مختلف تماماً يتناسب مع المدينة ومعطياتها،ويلعب معنا لعبة المفاضلة العقليّة الجدليّة التي تختار بعد الدّراسة والمفاضلة والإقصاء والتنحيّة الأفضل والأصلح والأقوى.
من الملامح الجميلة في هذا الكتاب توقّفه عند نضال الشّعوب وثوراتها بكلّ محبّة وتقدير،فدراسته لهذه الثّورات ليست فقط من جانب الاستفادة من هذه التّجارب لاستثمارها الممكن لخدمة القضية الكردية،بل الكتاب متحمّس لكلّ نضال في سبيل إحقاق الحق،وإنصاف المظلوم،وتحقيق قيم العدل والإخاء والمساواة والمحبّة.وفي هذا الشأن أسجّل لهذا الكتاب موقفه الحياديّ العادل المنصف والجريء والصّادق من القضيّة الفلسطينيّة التي أشاد بانتفاضتها المستمرّة التي استطاعت عبر استنهاض الهمّم الشّعبيّة أن تغيّر مجرى الأحداث،وتركّع العدو الصّهيوني،وتجبره على القبول بحكومة فلسطينيّة.
والكتاب عندما يقودنا إلى الثّورات كلّها التي طرحها إنّما يقدّم لنا دروساً إنسانيّة حيّة عن النّجاح والفشل والألم والفرح والخوف والأمل،وهو يأخذنا في مغامرة بشريّة نحو حق الإنسان في الثّورة على الظّلم،وهو حقّ بشري مقدّس وثابت. وفي هذه الرّحلة الممتدّة في مشوار البشريّة الثّوريّ في العصر الحديث يراوح الكتاب بين التّفصيل والإيجاز ليدفعنا لاستيلاد العبر والدّروس من هذا المشوار بغية استثمارها في تركيب المشهد المتغيّر عالميّاً وكردياً؛فيتحدث بتفصيل مدروس مقصود عن فشل التّجربة السّتالينيّة التي ركضت بالاتحاد السّوفيتيّ نحو الخلف حيث التّخلّف والجمود العقائديّ والدكتاتوريّة والقهر،فأثّر ذلك سلبيّاً على ثورات الشّعوب في المنطقة،وعرّج على الثّورة الصّينيّة بظروفها الذّاتيّة والموضوعيّة وصولاً إلى انحرافها عن مسارها ووقوعها في شرك الدكتاتوريّة،كذلك توقّف طويلاً تارة وقصيراً تارات عند كثير من الثّورات المسلّحة والانتفاضات التي آل بعضها إلى الانتصار،وانحدر معظمها إلى الفشل،وما زال كثيرٌ منها يراوح مكانه.
والكتاب يتحدّث صراحة عن أهميّة إنجاز كتب عن المعارك والحروب والنّضال الكرديّ،ويحتجّ صراحةً وعلانيّةً على غياب هذا المنجز عن المشهد الكرديّ،في حين هناك تطرّق إلى الكتابة في سائر الموضوعات،مثل: مخطوطات الملالي والشّيوخ القدامى في زوايا المساجد وأركان الجوامع وتكايا المتصوّفة.
الشّعور الأكيد الذي يهيمن عليّ بعد قراءة هذا الكتاب هو توقي الشّديد إلى أن يُستكمل المؤلف هذا المشروع في جزء جديد/كتاب ثانٍ يرسم ملامح المستقبل البديل المقترح للثّورات والنّضال الإنسانيّ مع رصد الخطّة المفترضة بتجلياتها كلّها لأجل استكمال هذا الكيان في ضوء المعطيات العالميّة والشّرق أوسطيّة المتسارعة والمربكة والمباغتة.
أيّاً كانت قناعتنا المتكوّنة بعد معاينة هذا الكتاب،وأيّاً كان انحيازنا إلى ثورة الجبال أم إلى انتفاضة المدن فإنّنا لا بدّ أن نضّم أصواتنا إلى صوت الكاتب الذي يختم كتابه بجملة قدريّة تحكم كلّ المآلات والصّراعات في كوكب الأرض،وهي:" لا بدّ أن تتحرّر الشّعوب مهما طال زمن الظّلم والاستبداد،والعبرة في البحث عن الطريقة المثلى لذلك".
0 التعليقات :
إرسال تعليق