فقيه القبيلة ، خياط للعامة - ياسين لمقدم*تتمة


             دكانه المربع الشكل تتوسطه آلة خياطة عصرية من نوع سنجر، مسح عنها الغبار وحرك دواليبها بعد أن وضع عليها قطرات من زيت صناعي. وفي أحد الأركان تتراص مجموعة من الأكياس الفارغة للدقيق الأمريكي للتضامن والتي كانت تتبرع بها الولايات المتحدة على المغرب منذ السنوات العجاف التي عصفت فيها المجاعة بالعباد والبلاد.                                                              وقف على باب الدكان رجل يضع على كتفه بردعة حماره الذي أودعه في اسطبل قريب ويسندها بيده حتى لا تنزلق، ويحمل باليد الأخرى سطلا محشوّا بالنخالة كي لا ينكسر البيض الذي سيقايضه بسلعة ما. وبعد أن ألقى بسلام مقتضب تسلل إلى الدكان وسط موجة من الغبار الذي أثاره إلقائه العشوائي للبردعة على الأرض المتربة. كظم  الفقيه غيظه لما حل بالمكان من عجاج كان قد قضى ردحا من الزمن في تنظيفه. أحس الرجل بشيء من الخجل وليداريه بادر إلى تقديم طلبه إلى الفقيه، حيث ترجاه أن يعجل له بخياطة سروال وقميص على موضة الگولف التي كانت سائدة في ذلك الزمن، ليعود إلى تسلمهما في عصر نفس اليوم . فتقدم منه الخياط ليأخذ له المقاسات بالطول والعرض، ثم دعاه إلى شراء ثلاث أكياس لدقيق التضامن، فمن أثوابها كانت تصنع الملابس محليا للإناث والذكور. أشار البدوي إلى تلك المرصوصة في زاوية الدكان، ليخبره صاحب المحل أنها تخص زبائن آخرين. وقبل أن يهم الرجل بالمغادرة طلب منه الفقيه أن يبادر إلى اقتناء القليل من الشاي والسكر، ثم يوصلهما إلى صاحب المقهى المجاور، فيخبره أن يصنع الشاي على الطريقة التي يرتضيها الفقيه.                                                            
بعد مدة من الزمن، والفقيه منهمك في عمله، دخل عليه رجل وقور يرتدي جلبابا أنيقا وينتعل بلغة بيضاء نظيفة. في حين ظل مرافقوه وقوفا بالباب وأسمالهم تشي على أنهم خدمه، ويكد أحدهم في العناية بالسرج الأنيق الذي يرفعه على كاهله، بينما الآخر أنزل وعلى مهل قفة فيها خابيتي سمن وعسل، وأما ثالثهما فيداعب ناصية حصان قوي أسود والذي بدأ يصدر من منخريه القُبَعَ منفرا من احتشاد الأطفال حوله. تبادل الرجلان عناقا طويلا وتحدثا عن أمور كثيرة وهما يرتشفان الشاي. وبعد أن سلم الزائر للفقيه مجموعة أجواخ صوفية ليحيك له جلبابا، غادر الدكان وفي أثره حاشيته بأثقالها ودون أن يحتاج الفقيه إلى أخذ مقاسته، فذلك الرجل من أهم الزبائن الذين لا يتغيبون عن المحل طويلا.
وكانت خياطة الجلابيب من اختصاص الأئمة والفقهاء، ويتعلمونها خلال سنوات الحفظ القاسية، بعد أن يقضوا طفولتهم الأولى في معاونة الفقيه المعلم بفتل جدائل البرشمان اللامعة، التي تطبع الجلباب بجمالية أصيلة.
         وضع الفقيه الأثواب الصوفية في كيس نظيف، ليحملها على دراجته خلال عودته المسائية إلى بيته المتنائي، حيث سيخيط الجلباب للرجل الوقور في مدة قد تتجاوز الأسبوعين.
        ثم عاد إلى ماكينة الخياطة، وحتى لا تظهر الكتابة المطبوعة على أكياس الدقيق والتي تدل على مصدرها، كان يضطر إلى قلبها، بحيث ستتوارى الحروف الفاقعة الألوان إلى الواجهة الداخلية من المحوكات. ومن الناس من كان يغسلها بالماء المنقوع بنبتة تيغيغيت** حتى تتطاير الصباغة من أثواب الأكياس.                                                                                              
     أذن المؤذن لصلاة الظهر، فغادر الفقيه دكانه الذي سيؤَمنه إلى جاره التاجر، ثم توجه مسرعا إلى مسجد القصبة، حيث سيصلي بهم الإمام الورع، القادم من شمال البلاد، صلاة سريعة يراعي فيها مشاغل التجار والحرفيين في مثل هذا اليوم. وفي طريق عودته مر بمقهى صغير يقع في دريبة ضيقة وراء السوق المغطى للخضروات، وطلب من صاحبه أن يبعث له بإبريق القهوة الممزوجة بالقرفة والإبزار. ثم عاد إلى عمله وهو يحيي في طريقه الكثير من معارفه القادمين من الضواحي البعيدة
      ولما وصل إلى دكانه وجد في انتظاره رجلا أسمر ذا ملامح قاسية مرتابة، وتشي التجاعيد على وجهه بقساوة الحياة الذي قضاها في أعمال قاهرة. ويحكى أن أصله من السينغال، وكان من موالي القائد القبلي حمادة، بل واليد التي سفكت القادة الأربعة عشر من قواد بوحمارة فيما يعرف بمذبحة قصبة بني بوزكَـو.
      حيى الفقيه الرجل العجوز باحترام شديد، ثم دعاه إلى الجلوس على وسادة وضعها فوق برميل قصديري. فأطنبا في الحديث عن كل شيء والفقيه لا يرفع عينيه عن محوكاته. وفي هذه الأثناء دخل عليهما النادل محملا بإبريق القهوة التي جذبت روائحها الجار الذي هب إلى صب كوب منها، دونما الانتباه إلى الزائر. سأل العجوز الخياط عن هوية نادل المقهى، فنفى الخياط أي معرفة به، ليبادر إلى إخباره أنه حل بالمدينة صبيا قادما إليها من مدينة الناضور هاربا مع الكثيرين من المجاعة التي عرفتها البلاد في الأربعينات، وقد آواه رجل كريم يسكن في الضفة الأخرى لوادي ميه جديد، ولما اشتد عوده عمل في تلك المقهى وسمح له صاحبها أن يتخذها سكنا له.   
       وقبل أن يهم بالانصراف، طلب الضيف من الفقيه أن يشرفه بالحضور إلى بيته في مساء اليوم الموالي، ليقرأ بعض الأوراد في حفلة زفاف حفيدته.
       بعد ساعات من العمل، عاد البدوي ليتسلم لباسه، فألقى بالبردعة على الأرض كما فعل في الصباح، فصدرت عن الفقيه هذه المرة زمجرة سرعان ما ندم عليها فتعوذ وحوقل. وقابل الرجل ذلك بابتسامة تشي ببلاهته و براءته. ودون أن يقلب الكسوة غادر البدوي الدكان مسرعا وفي أثره الفقيه الذي يطالبه بأداء أجر العمل، فقال الزبون إنه قد دفع ذلك في براد الشاي الذي جلبه له في الباكرة، ولم يتبق له غير أجر الإسطبل حيث يودع حماره .ووعده بأن يؤدي ثمن ذلك في الأسبوع المقبل إن تمكن من بيع ربطات سعوف الحلفاء للنسوة الناسجات للحصائر، أو خشب السدر لصاحب حمام عمومي أو مخبزة . رجع الفقيه خائبا إلى عمله راجيا أن لا تلقى أعماله نفس المصير
     بعد صلاة العصر، عاد بعض الزبائن لتسلم ملابسهم، فسعد الفقيه لما لاقاه منهم من كرم أنساه جفاء الزبون الأول
         كادت الشمس تتوارى خلف الجبال البعيدة، ولم يعد للفقيه سبيل غير لمِّ أغراضه التي سيحتاجها في منزله لإتمام أشغاله يدويا على الجلباب الذي طلبه الرجل الوقور. قام بجولة حول الدكاكين القريبة ليبتاع ما أوصته به الزوجة في باكرة هذا اليوم، فتراءى له الناس سراعا حوله يسابقون الزمن في خشيتهم من أن يتداركهم الليل ولم يتموا تبضعهم الأسبوعي. ثم عاد ليغلق دكانه ويمتطي دراجته فيدك الدواسات بهمة ونشاط متحرقا للوصول سريعا إلى مضارب قبيلته، حيث سيجد الأبناء في انتظاره وقد اعتلوا ربوة ليتطلعوا إلى فانوس دراجته الذي يظهر التماعه من بعيد.         
    وكما في الصباح كان يتجاوز قوافل البدو العائدين إلى بيوتهم بعد أن قضوا يومهم بين سوق المدينة والتردد على الحرفيين لشحذ الفؤوس أو تغيير سنابك البغال. ومنهم من تخلف عن الركب فترك حماره وبأحماله يحث خطاه لوحده إلى خيمته رغم الظلمة.  
        هرول الأطفال إليه، وكاد تدافعهم نحوه أن يسقطه أرضا وهو يحاول أن يعدّل من توازن الدراجة التي ثقلت بما جلب من المدينة حين همّ بالترجل عنها. قبلوا يديه وتعقبوه إلى البيت حيث ستساعده الزوجة التي استقبلته بابتسامة سريعة في إنزال القفف التي علّقها على المقود. بينما اهتم هو برفع الكيس الذي وضع فيه الأجواخ الصوفية بكل عناية.  
        وحين انتهوا من ذلك، ركن الخياط  دراجته في زاوية الغرفة، ثم أوثقها. وبعد أن قرفص من تعب أمام صينية الشاي الساخن، بدأ يوزع أصابع الحلوى بالتساوي على الأطفال. وأما الزوجة فلقد انهمكت في تفريغ القفف، حيث وجدت بين سلعتها الحناء والسواك المغربي وأشياء أخرى اجتهد الفقيه على إخفائها عن أعين الصغار في عمق السلة.  فأفلتت منها ضحكة استغرب لها الأطفال الذين تحلقوا حولها لمعرفة السر وراء ذلك .أمرتهم بالابتعاد عن نار المرجل حتى تهيء الطعام بينما توجه الفقيه للوضوء لصلاة العشاءين
        في الصباح ولما خرج الأبناء ليرِدوا الماء من بئر قريب، لمحوا ديكهم منهمك في نقر ما تبقى من قشور الكاوكاو الذي لم يعرفوا مصدره.
-----------------------
هامش :
** تيغيغيت: لفظة أمازيغيّة تطلق على نبتةٍ كانت تنبت مع الزرع في فصل الربيع، فكانت تقطف قطْعاً بالسكّين، وتغلَى في الماء والملح ثمّ تؤكل مع الخبز، أو يُمرّقُ بها دشيش الشعير... وأمّا جذور تيغيغيت فكانت تُدَقّ دقّاً ثمّ تخلط بالملابس الوسخة ثمّ تدقّ بخشبة مخصوصة بعد أن تبلَّل بالماء، فكان هذا النّبتُ بمثابة الصابون الذي يستعمل في غسْل الملابس وتنظيفها   .

* كاتب من المغرب
شاركه

عن ABDOUHAKKI

هذا النص هو مثال لنص يمكن ان يستبدل في نفس المساحة ايضا يمكنك زيارة مدونة مدون محترف لمزيد من تحميل قوالب بلوجر.
    تعليقات بلوجر
    تعليقات فيسبوك

0 التعليقات :

إرسال تعليق

أدب رقمي

حصريات

تكنلوجيا

بالصوت وصورة

سلايدر شو

.

صور فلكر

اخر الاخبار

:إبداع

عالم حواء

عن القالب

صفحتنا

اخر الاخبار