ناظم الغزالي بوّابة الأغنية العراقية إلى العالم
العربي
منذ غاب لحن العراق الحديث ناظم الغزالي، قبل خمسين
عاماً، لم يخفت صدى صوته، ولم تمح صورته من مخيلتنا، وما يزال يحتفظ بمكانة خاصة في
الوجدان العراقي والعربي جنباً الى جنب اسماء عدة رسخت بصماتها.
ناظم الغزالي، الاسم الذي كان وما يزال، مرادفاً
لاسم العراق في الابداع والفن الراقي؟ اغنياته حاضرة في الأذهان، ومحفورة في القلوب،
منذ ان تمرد على القيود الموسيقية والغنائية السائدة، في وقت كانت الاغنية العراقية،
متقوقعة وغارقة في محليتها، فيما كانت غريبة على الاذن العربية، بما تحمل من خصوصيات
عديدة، وبعدها في الغالب من الفرح، بل واثارتها الاشجان والاسى لدى المستمع، وغالباً
ما يتعذر فهم اللهجة المحلية، وبالتالي تؤدي الى صعوبة استساغة غير الاذن العراقية
هذا النوع التراجيدي (ان صح القول) من الغناء.. ففي بعض اساليب الكتابة (كالزهيري مثلاً
او ما يسمى في البلاد العربية بالموال البغدادي وغيرها من انماط شعرية محلية)، بصمة
خاصة من ناحية اللهجة واللحن والاداء، جعلتها مغايرة عن شقيقاتها الاغنيات في بلدان
عربية اخرى حتى المجاورة منها، مثل الكويت، او سوريا على سبيل المثال.
كيف تمكن ناظم الغزالي الخروج بالاغنية العراقية
من محليتها الصميمة الى افاق ارحب خارج حدود الوطن وما هي العوامل التي ساهمت في ذيوع
صيته وفي جعله احد اهم رموز الاغنية العراقية والعربية؟
عناصرعدة ادت الى نجاح الغزالي: صدق الاحساس، سعة
أفقه ورؤيته للمستقبل، تعاونه مع موسيقيين أكفاء، غرفُه من معين الفن التقليدي وصيغته
له بإطار معاصر مشذب، أناقة المشهد والصورة، ثقافة وإلمام بالشعر العربي والمقامات
الغنائية، وتطلعه الى خارج الحدود.
كان ناظم الغزالي يؤدي ما شغف به وعشقه، بجرأة واقدام،
من دون الخوف من تصنيفه كقارئ مقام، او مطرب كبير، او (بَستجي)، والكلمة آتية من (بستة)
وهي مصطلح يطلق في العراق حصراً على الاغنية الشعبية الخفيفة التي تتبع غناء
"المقام العراقي"، او حتى مطرب عادي او غيرها من التصنيفات. بل شغفه بالاغنية
وصناعها السابقين ورموزها الكبار بدليل انه كان يقوم بأبحاث عميقة وله كتب جمع فيها
تاريخ الغناء في العراق واسماء كثيرة ممن اشتغلوا فيه، وكانت رغبته كمطرب عراقي معاصر،
يتطلع الى اغنية، تحمل مواصفات الاغنية العربية الحديثة، التي يسمعها المواطن العربي
اينما كان، ويستسيغها، اذ تمكن الغزالي من توصيل الاحساس الصادق، وتحقيق حلمه بأن تقف
الاغنية العراقية جنباً الى جنب مع الاغنية المصرية التي كانت النموذج والمثال الاتي
عبر الافلام وتسجيلات الفيديو لحفلات العمالقة مثل عبد الوهاب وام كلثوم واخرين. وربما
كان رأي الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب هو الدليل على بلوغ الاغنية العراقية الى
اسماع العرب عبر خصوصيتها وميزاتها حين قال يوماً: "كل الاغنيات العربية تدور
في فلك الاغنية المصرية فيما عدا الاغنية العراقية".
وجاءت مرحلة تبلور (فورم) او شكل الاغنية العراقية
الحديثة، حين اشتغل جميل بشير على التوزيع الموسيقي لأغنيات بعضها من القرن التاسع
عشر، قام بتلحينها الملا عثمان الموصلي، ووضع لها لوازم ومقدمات موسيقية، اذ كان بشير
عازف كمان مبدعاً، وعازف عود وكان يتعاون مع الغزالي في وضع النوتات للاغاني وتدريب
الموسيقيين على أدائها بإتقان. وكان منير بشير يعزف على آلة العود، حيث لعب في التسجيلات
والحفلات دوراً بارزاً، وبذلك كان التوزيع الموسيقي الحديث واستخدام آلات غربية مثل
البيانو وغيرها، بمثابة ولادة جديدة للاغنية العراقية على يد ناظم الغزالي وفكره الذي
سبق زمنه.
ومن هذه الاغنيات على سبيل المثال: اغنية
"يا ام العيون السود" و"فوق النخل" اللتان ذكر الغزالي في احد
تصريحاته انهما من الحان عثمان الموصلي (1854 1923). وهناك غيرهما من الألحان التي
وضعها له العديد من الملحنين، الا انه ألّف ثلاثياً لسنوات مع الكاتب جبوري النجار
والملحن ناظم نعيم الذي لحن له موال: أي شيء في العيدِ أهدي اليك يا ملاكي" من
شعر ايليا ابو ماضي، وغيرها وقد اعتبر ناظم نعيم وفاة الغزالي أنها أصابته في الصميم
وشعر أن الحياة برمتها تخلت عنه.
:اضافة الى محطات مضيئة وباقية، مثل:
"ميحانة ميحانة"، "ويلي شمصيبة"، "فوق النخل" و"يا
بنية"، "خايف عليها"، "يا قامة الرشأ المهفهف". وكان الراحل
يمتلك موهبة خاصة ووضوح في نطق الكلمات وفخامة مخارج الألفاظ والتعبير الدرامي اثناء
الاداء. وكان ذا خبرة وباع في فن الشهيق والزفير في الأوقات الملائمة وربما دراسة التمثيل
وممارسته أعانته على هذا الأداء المميز.
لقد غرف من معين الغناء العراقي والعربي لانه كان
يستمع بشغف الى اسطوانات عصر النهضة المصرية كما العراقية، وهذا ما رسم شخصية غنائية
مغايرة عما سلفه او حتى عاصره. وهذا باعتراف النقاد في العراق وكبار الفنانين الذين
عاصروه. وما كان يميزه في ذلك معرفته وتعمقه في المقامات العراقية وأصولها وصوته الصحيح
المضبوط والدقيق. يضاف إلى ذلك انفتاح حنجرته وصفاؤها، وحين غنى الموال اجاده بل وخرج
به ايضا عن الصيغ التقليدية ووصل نوتات الخاصة بوضوح. والأهم عبر جوابه المتين وقراره
المشبع، فحين يغني الموال، او المقام، لا بد ان يعرفه المستمع فورا ويميز نبراته الصافية،
الرنانة، واداءه الدرامي وهذا ما أدى إلى نقل فن الموال في العراق من الظل إلى الضوء.
لا شك ان الغزالي كان يتمتع بنعمة اخرى، وهي الذكاء
والقدرة على استشراف المستقبل، يضاف اليها مسائل هامة اوصلته خلال عشر سنوات او اكثر
قليلاً الى مصاف كبار الاغنية العراقية بل وتجاوز بعضهم. فالطموح الكبير رافقه جهوداً
كبيرة منه وشغلاً دؤوبا وتكريس نفسه للفن وتعلمه الدائم من السابقين والمعاصرين ومنمن
كل ما يحيط به من علوم، ويستفيد من خبرات الملحنين والشعراء والموسيقيين العاملين معه،
حيث ساهم عدد كبير منهم في تبلور شخصية الغزالي المعروفة اضافة الى جميل بشير، ثم الحفاظ
على تواضعه وتوازنه حتى بعد نيله الشهرة، لانها كانت ميزان نجاحه واستمراره، وهذا ما
ثبت بعد وفاته بخمسين عاماً، وربما حتى مئة.
رؤيته
من ناحية اخرى، نستشف ايضاً، من رؤيته ونظرته البعيدة،
اشتغاله على المشهد الذي يظهر به اثناء الغناء، فهو لم يعتمد فقط على موهبته لنيل استحسان
الجمهور، بل عرف قيمة الصورة وجماليتها في التأثير المشاهد والمستمع معاً، فإضافة الى
الاتقان في الموسيقى وجماليات الغناء، قدم صورة راقية وانيقة للمغني العراقي وفرقته
المرافقة له. بدءاً بالعناية بهندامه واناقته في الملبس ووقفته الرصينة وصولاً الى
اناقة العازفين المرافقين، والاهم اهتمامه بان تضم فرقته ابرز العازفين في العراق واقدرهم،
لذا تكاملت عناصر المادة المقدمة، صورة جميلة لافتة تضفي قيمة مضافة على الاداء الموسيقي،
وقيل ان الغزالي كان يصرف من جيبه الخاص على ديكورات التلفزيون حين يصور في الاستديو
اغنية او حفلة.
اما التلحين فتطور شيئاً فشيئاً مع الغزالي. وبعد
أن بدأ ببعض الأعمال الناجحة في سياق النمط السائد منذ العشرينيات وصولاً إلى الأربعينيات،
بدأت بوادر الأغنية المتكاملة تظهر مع أغنياته، فنستمع في تسجيلات الغزالي، لوازم موسيقية
مشغولة تتضمن توزيعاً موسيقياً، مع تعدد الآلات الموسيقية وانضمام الغربية منها إلى
صفوف الشرقية، والتوزيع المتخصص لهذه الآلات مما لم يكن مسبوقاً. أما الكلمة المغناة
فخرج بها من مضامينها المحلية، واتجه إلى القصائد العربية. غنى أبا فراس الحمداني
"أقول وقد ناحت بقربي حمامة" وغنى أحمد شوقي "شيّعت أحلامي بقلب باك"
والبهاء زهير "يا من لعبت به شمول"، وإيليا أبو ماضي "أي شيء في العيد
أهدي إليك يا ملاكي"، ومن المتنبي "يا أعدل الناس" ومن عباس بن الأحنف
"يا أيها الرجل المعذب نفسه"، وغيرها من القصائد التي كانت طي الدواوين فأصبحت
شائعة على الألسن. أما من ناحية فن الأداء فإن الغزالي أبقى على نبرة الشجن الشائعة
في الأصوات العراقية وفي طريقة أدائها، بل هو زاد عليها نبرة أكثر تفجعاً وحزناً عبر
أدائه الدرامي الذي اعتاد تقديمه في أدواره المسرحية والذي استقاه من مدرستين، الأولى
مدرسة الحياة القاسية التي عاشها منذ ولادته، والثانية معهد الفنون الجميلة.
إذن كان الغناء قبل الغزالي يغلب عليه الطابع الشعبي
البسيط رغم بروز العديد من الملحنين والاصوات القديرة، وخاصة الخصوصية الآتية من جنوب
العراق وريفه الغني بالمواهب الفطرية الاصيلة، اثرت الساحة الغنائية العراقية بأجمل
الاشعار والالحان والاصوات.
ناظم والمقام
كذلك الغناء البدوي وله رموزه اللافتة أيضاً، كما
غناء الأبوذية والعتابة والمواويل البغدادية وغيرها من أنماط شعبية لا يمكن إنكار جمالياتها
التي جعلت منها أنماطاً محببة وشائعة في المجتمع. وحين نبتعد عن هذه الأنماط، نصل إلى
ضفة أخرى من فن الغناء ألا وهي الفن المتقن، المتمثل بغناء "المقام العراقي"،
القالب الصعب أداءً وسماعاً في آن. أثقل القوالب الغنائية في العراق، إذ تمتد جذوره
إلى أكثر من ألف عام مضت. ومن تاريخه الضارب في القدم ومن صرامة شروط أدائه، نستشف
سبب عدم شيوعه، سوى لدى قلة من عشاق الطرب والسماع، وبعض أولئك الذين ينتظرون بفارغ
الصبر انتهاء المغني من غناء "المقام" ليستمعوا إلى الـ"بستة"،
أي الأغنية الشعبية الخفيفة التي تُلحق مباشرة بالمقام، فتلطف الجو وترطب الأذن وتساعد
على تخفيف وطأة التركيز على الكلام والنغم، وتساهم في بث الفرح والانفلات قليلاً، والابتعاد
من الرصانة.
في ذلك الوقت جاء ناظم الغزالي بأسلوب جديد في غناء
المقام. فنبرة الصوت الدرامية تختلف عن السابقين، الذين كان همهم الاول استعراض مساحة
صوتهم، قبل اي امر اخر، وعمن تتلمذ عليهم أمثال يوسف عمر ورشيد القندرجي ومحمد القبّنجي.
فعلى الرغم من التزام الغزالي بخط الأخير، القبنجي الذي يعدّ أبا "المقام"
والمؤسس لأطره الحديثة، وله فضل تشذيبه من بعض الألفاظ، الإيرانية والتركية، إلا أن
الغزالي يعود له فضل جعله فناً شعبياً، جماهيرياً، مرغوباً، بل سائداً في أوساط المجتمع
كافة، عبر أدائه السلس وأسلوبه التراجيدي، الذي استُنكر كثيراً في البداية بل ورُفض.
ساهم في ذلك حسّه وثقافته وتذوقه العالي للشعر والموسيقى.
صوت ناظم
يذكر الدكتور خالد ابراهيم في كتاب: "ناظم
الغزالي سفير الاغنية العراقية" لمؤلفه كمال لطيف سالم بانه تميز بصوته الجهوري
الصافي وطبقاته العالية. والنبرات ذات الحد الشديد. وهو صوت متميز جدا في تاريخ الغناء
العراقي". فقد أبدى الفنان الراحل محمد عبد الوهاب إعجابه بصوته وكان بصدد التلحين
له لولا سرعة القدر في اختطاف الغزالي.
بعض النقاد والموسيقيين العارفين بتقنيات الصوت،
تحدثوا عن الخامة والاداء بشكل ايجابي، الا ان هناك من كان يعيب عليه بعض النواقص.
المهم، ان صوت الغزالي كما هو معروف علمياً، يصنف ضمن الأصوات الرجالية الحادة
"التينور" واكثر تحديداً: "التينور الدرامي"، ويضيف ابراهيم: هو
الصوت الرجالي الأول في التصنيفات الغربية. أما مجاله الصوتي فيتراوح بين أوكتاف ونصف
إلى أوكتافين. والأوكتاف أو "الديوان" بالعربية يتضمن ثماني نوتات أو درجات".
وهذا هو الغريب في مسألة انتقاص بعض النقاد من صوت
الغزالي حيث يعتبرونه خالياً من القرارات، اي انه لا يصيب النوتات الخفيضة، لذلك برع
في اداء المقامات ذات الدرجات العالية، ومن جهة اخرى يعتبر الناقد العراقي سعاد الهرمزي
أن نجاح ناظم الغزالي يعود الى جهود الملحن ناظم نعيم ونصائحه، فعمل الاثنان معاً حيث
انعدمت بينها عوامل الخلاف والفرقة. وحسب الهرمزي فان ناظم نعيم: "فنان بحق، أما
الغزالي فهو مجرد مغن، أخفق في أدائه أن يكون قرارا صحيحا، بل إن غناءه كان جوابا قاصرا
عن مقتنيات الغناء الصحيح...".
في حين ان الامر يخضع للطبيعة البشرية، بكل بساطة،
وهذا ما اكتشفه الغرب واتبعه منذ بدأوا الغناء والتأليف حيث قسموا الاصوات البشرية
اولا فئة الرجال وفئة النساء حيث تختلف نبرات ودرجات الفئتين عن بعضهما، كما قسموا
فئة الرجال كما هو معروف، الى ثلاثة تينور (حاد) وباريتون (وسط) وباص (خفيض)، والنساء
الى سوبرانو (حاد) وميتزو سوبرانو (وسط) والتو (خفيض). وهذا ما لم يكلف العرب انفسهم
عناء اتباعه، لان العشوائية ما تزال مبدأ التعامل مع الغناء، وبالتالي هذا التقسيم
يحتاج الى مؤلفين مختصين وعالمين دارسين وليس ملحنين فحسب. وهنا الغرابة حين صنف النقاد
صوت الغزالي (غربياً) بانه تينور درامي وهي الطبقة العالية التي لا تصيب النوتات الخفيضة
بديهياً، وليس عيباً او نقصاً.
هذا الامر تمسك به قراء المقام التقليديون في العراق،
فكانوا وما تزال غالبيتهم لا تتقبل الصوت ضمن تقسيم معين، بل لا تعترف الا بالصوت الذي
يحتوي على ثلاث اوكتافات، لكي يصلح ان يكون ضمن قائمة قراء المقامات، وهذا ما جعل المطربين
يبتعدون عن غناء المقام العراقي لكي لا يقعوا تحت قسوة وهجوم التقليديين، كل ذلك لم
يمنع الغزالي من غناء المقامات المحببة الى نفسه والملائمة لصوته، ولم يعر هذه الانتقادات
والاقاويل اهتماماً.
السؤال الهام اليوم: اين تسجيلات ناظم الغزالي التي
ملأت استديوات وبرامج الاذاعة والتلفزيون العراقيين، والتي سجلها على امتداد الخمسينات
وحتى وفاته عام 1963. لماذا لا نجد له تسجيلات تلفزيونية، غير تلك التي سجلها في الكويت.
هل تعرضت للتلف خلال الحروب المنصرمة، ام سرقت، ام ماذا؟ اين هي تسجيلات حفلاته التي
احياها في البلدان العربية مثل لبنان وسوريا وغيرها.
بغداد عاصمة الثقافة العربية 2013، وتصادف الذكرى
الخمسون على وفاة الغزالي، يبدو ان جل ما قامت به وزارة الثقافة هو اقامة حفل متواضع
بمشاركة وجوه فنية وبعض الفاعليات وبحضور حسن الشكرجي مدير عام دائرة الفنون الموسيقية
في الوزارة وفنانين أدوا بضع اغنيات معروفة للراحل.
كيف نفسر للعالم العربي، عدم تكريم الدولة العراقية،
لرموز الثقافة والابداع مثل ناظم الغزالي. اين المصداقية في ان تكون بغداد عاصمة للثقافة
العربية، وما يزال مثقفوها وبالاخص الموسيقيين منهم والملحنين والمطربين يعانون الوحشة
والمرض والاهمال، ويدفنون في المنافي. صحيح ان هناك محاولات لاستدعائهم وعودتهم الى
الوطن، لكنها لا تكفي من دون ضمانات لحقوقهم الانسانية والمعنوية والمادية والأمنية،
هم بحاجة لاحتضانهم وتبني ابداعاتهم ونشرها، كي يشعروا ان وطنهم ما يزال موجوداً والى
جانبهم، وانهم ينتمون اليه وهو ينتمي اليهم، ولكي يبدعوا باسم العراق، لا باسم البلاد
التي نالوا جنسياتها. ومن اجل عراق جميل، متطور فكريا بكل اشكاله، لا من خلال الصورة
المأسوية التي يبثها الاعلام يومياً، كرس بها العراق كحاضن للارهاب والدم والدمار.
هل هذا الحلم مستحيل؟
كم جميل لو سمعنا خبراً يقول انه تم اطلاق اسم ناظم
الغزالي على شارع ما في بغداد؟ او تم تشييد مسرح يحمل اسمه؟ كم جميل لو اقامت الدولة
المهرجانات وعقدت المؤتمرات ليكون مدرسة عراقية اصيلة تحتذي بها الاجيال الجديدة، على
غرار الدول الاخرى، التي تحتفي بمبدعيها الموسيقيين (وغيرهم) طوال العام الذي يصادف
انهم ولدوا او توفوا فيه؟ كم جميل لو أعادت وزارة الثقافة تسجيل اعماله وإصدارها في
البومات حديثة متقنة، ليستمتع بها عشاقه في كل الوطن العربي، لا في العراق فحسب؟ بدلا
من تلك التسجيلات القديمة المستنسخة الاف المرات والمنتشرة على نسخ مشوهة تباع على
ارصفة الشوارع والمدن العربية بأبخس الاثمان، وتنشر مجاناًعلى مواقع الانترنت، رغم
ايجابيات في هذا الامر لا تنكر.
كم جميل لو اقامت مؤسسات الدولة، الندوات والنقاشات
حول فن الغزالي وفترته الذهبية وتأثيره بالاجيال التي تلته من مطربين حتى في الوطن
العربي؟ كم هو رائع وحضاري لو كلفت دارسين وباحثين ليؤلفوا كتباً او كتاباً نقدياً
حقيقياً يكون مرجعاُ أكاديمياً للاجيال والمتذوقين ودارسي الموسيقى، ويسجيل مرحلة نهضوية
في تاريخ العراق كان الغزالي جزءاً منها. على اهمية ما نشره قلة من الكتاب والنقاد
يعتبر المادة المرجعية الوحيدة عن الراحل، الا انها في معظمها يغلب عليه الحديث العاطفي
و"النوستالجيا" او الأرشفة والتوثيق.
كم هو حضاري، لو أقرت دراسة الغزالي ضمن فقرة ولو
مقتضبة، في المناهج المدرسية او الجامعية؟ اين تلفزيون الدولة الخاص ليقوم بدوره في
الاضاءة على هذا الرمز الخالد، كتصوير فيلم وثائقي او مسلسل او حتى حلقة درامية او
سهرة غنائية او حلقة نقاشية مثلاً، لمجرد حفظها في الارشيف؟ كم وكم وكم؟؟ احلام كثيرة
جميلة وتطلعات، ماذا لو تحقق جزء منها؟
اذن بعد التطور الذي حدث في الاغنية العراقية في
عهد ناظم الغزالي. وايضاً لسنوات تلت حتى السبعينات، كيف وصل المشهد الغنائي والموسيقي
في العراق، الى ما وصل اليه اليوم؟ ولماذا اتسعت الهوة، بين الفترتين؟
رغم معرفتنا للاسباب، ما خفي منها وما ظهر، الا
ان الامر بات يشكل هاجساً مخيفاً، نظراً للاثر السلبي الذي يتركه هذا التدهور على تذوق
الاجيال وحاضر الاغنية العراقية، والاهم مستقبلها، في وقت كان الامل كبيراً بالتطور،
بعد التغيير الذي حصل منذ عشر سنوات، الا ان العكس تماماً حدث، وساهمت الدولة ومؤسساتها
في ازدياد هذه الهوة، والتراجع ولم تأت الرياح بما اشتهت السفن.
قرأنا الكثير عن ناظم الغزالي الصوت العراقي الأشهر.
مقالات وصفحات، وربما كتباً، ما تزال تجتر سيرته منذ ولادته وحتى وفاته، لكن دراسة
اكاديمية ومنهجية واحدة لم تصدر عنه.
ويبقى كتاب "ناظم الغزالي، سفير الاغنية العراقية"،
الصادر عام 1986، للكاتب والباحث كمال لطيف سالم، الاكثر شمولا في تناول حياة ناظم
الغزالي، وبخاصة ما يضمه من شهادات حية من قبل رفاق الغزالي وهم رواد في المسرح والموسيقى
والشعر، عاصروه أو اشتغلوا الى جانبه في حفلاته وتسجيلاته وغيرها، لذا فإن غالبية الكتابات
التي تستعرض سيرة الغزالي، تستقي معلوماتها مما ورد في هذا الكتاب تحديداً. ولا يمكن
انكار بعض الشهادات الاخرى المتفرقة في مجلات وصحف صدرت هنا وهناك.
حياة ناظم الغزالي في سطور
ـ ولد في العام 1921 في منطقة الحيدرخانة في بغداد
يتيمًا، لأم ضريرة كانت تسكن في غرفة متواضعة مع شقيقتها. بصعوبة استطاع متابعة دراسته
الابتدائية والمتوسطة، في المدرسة المأمونية، وكان الفقر ملازمًا له، وزاد الفقر حدة
بعد وفاة والدته، ورعاية خالته له، وهي التي كانت تستلم راتبا لايتجاوز الدينار ونصف
الدينار.
ـ بعد تردد طويل التحق بمعهد الفنون الجميلة قسم
المسرح، ليحتضنه فيه فنان العراق الكبير حقي الشبلي نجم المسرح وقتها، حين رأى فيه
ممثلا واعدا يمتلك القدرة على أن يكون نجما مسرحيا، لكن الظروف المادية القاسية التي
جعلته يتردد كثيرا في الالتحاق بالمعهد نجحت في إبعاده عنه، ليعمل مراقبا في مشروع
الطحين بأمانة العاصمة.
أبعدته الظروف عن المعهد، لكنها لم تمنعه من الاستمرار
في قراءة كل ما تقع عليه يداه، والاستماع إلى المقام العراقي المعروف بسلمه الموسيقي
العربي الأصيل، كما كان يستمع أيضا إلى أم كلثوم، ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش وأسمهان
وليلى مراد ونجاة علي، وكانت أغنياتهم وقتها تملأ الأسماع في مناخ كان يدعو كلا منهم
إلى الاجتهاد والإجادة لإمتاع متذوقي الطرب، مما جعل ناظم يتعلق أكثر فأكثر بالغناء
ويحفظ أغنياتهم، ليكتشف ويكتشف المحيطون به أن هناك موهبة غنائية لن تكرر في حنجرة
مراقب مشروع الطحين. - هذه الفترة، أكسبته طموحا غير محدود وعنادا وإصرارا على إكمال
الطريق الذي اختاره رغم الصعاب المالية والنفسية، التي واجهته، وجعلته حين يعود للمعهد
ليأخذ حقي الشبلي بيده ثانية ويضمه إلى فرقة "الزبانية" ويشركه في مسرحية
"مجنون ليلى" لأمير الشعراء أحمد شوقي في عام 1942، ولحَّن له فيها أول أغنية
شدا بها صوته وسمعها جمهور عريض، أغنية "هلا هلا" التي دخل بها إلى الإذاعة،
والتي حول على إثرها ناظم اتجاهه، تاركا التمثيل المسرحي ليتفرغ للغناء، وسط دهشة المحيطين
به الذين لم يروا مايبرر هذا القرار، خاصة أن ناظم كان يغني في أدواره المسرحية، إلا
أن وجهة نظرة كانت أنه لكي يثبت وجوده كمطرب فإنه لابد أن يتفرغ تماما للغناء.
ـ بين عامي 1947 و1948 انضم إلى فرقة الموشحات التي
كان يديرها ويشرف عليها الموسيقار الشيخ علي الدرويش والتي كان بها عدد كبير من المطربات
والمطربين.
ـ كان قارئاً نهماً، لذا امتاز عن زملائه بثقافته،
تلك الثقافة التي ظهرت عام 1952 حين بدأ ينشر سلسلة من المقالات في مجلة "النديم"
تحت عنوان "أشهر المغنين العرب"، وظهرت أيضا في كتابه "طبقات العازفين
والموسيقيين من سنة 1900 ـ 1962".
ـ سافر عام 1948 الى فلسطين وهي أولى محطاته خارج
العراق، إذ ذهب مع الوفد الفني للدعم المعنوي وشحذ همة الجيش العراقي والجيوش العربية
المتواجدة في فلسطين لمحاربة إسرائيل، والتقى هناك بعبد السلام عارف الذي أصبح لاحقا
رئيسا للجمهورية العراقية بعد انقلاب 1963، حيث تمتنت علاقة الصداقة بينهما بسبب حب
عارف لفن الغزالي والمقام العراقي عامة،َ وأخذا يلتقيان في فترات متباعدة لم تنقطع
حتى بعد تولي عارف رئاسة الجمهورية.
ـ منذ بداية الخمسينيات بدأت أغنيات الغزالي تعبر
الحدود، فسافر إلى عدة دول، وأقام عدة حفلات في كثير من الدول العربية، وأصبح سفيرا
للأغنية العراقية
ـ غنى لاشهر الشعراء العرب مثل ايليا ابو ماضي
"اي شيء في العيد"، والمتنبي "يا أعدل الناس"، وللبهاء زهير
"يا من لعبت به شمول"، ولاحمد شوقي "شيعت احلامي"، وابو فراس الحمداني
"أقول وقد ناحت بقربي حمامة"، وللعباس بن الأحنف "يا أيها الرجل المعذب
نفسه"، ولغيرهم.
ـ يعود الفضل في حفظ تسجيلات الغزالي إلى الآن،
إلى شركة "جقماقجي" التي بدأت منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي في تسجيل
أسطوانات كبار المطربين والمطربات العراقيين، وطبعا كان ناظم منهم إن لم يكن أولهم؛
إذ كان وقتها المطرب الأكثر شهرة في سماء العراق.
ـ طلب الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب من شركة
"كايروفون" أن تنتج لناظم الغزالي عددا من الأسطوانات يضع بنفسه ألحانها،
الا ان المنية كانت اسرع من تنفيذ المشروع.
ـ توفي في 23 أكتوبر 1963.
0 التعليقات :
إرسال تعليق