يُمنى طاهر يحكي فيلم "The Invisible Woman" (إنتاج: 2013- المدّة: 111 دقيقة) حكاية "إلين تيرنان" عشيقة "تشارلز ديكنز" التي لم يعرف أحد بعلاقتها السرية معه حتى موته. قام بعد تطليقه زوجته عام 1860 بحرق كل رسائله قائلا : “لا أعتقد أن خصوصية هذه الرسائل سوف تُحترم بعد موتي". وهكذا ظلّ الأمر ملتبسا وغير مؤكد لسنوات طويلة. يُمثّل الفلم تجربة الإخراج الأولى للممثل رالف فيننيز Ralph Fiennes حيث يقوم بدور البطولة أيضا. وللمرة الثانية تُشاركه الممثلة فيليستي جونز Felicity Jones. لكن هذه المرة تكون العشيقة التي تصغره بعشرين عاما بعدما جمعهما فيلم Cemetery Junction عام 2010 كأب وابنته.
فاز الفلم بجائزة أفضل تصميم ملابس بمهرجان Satellite Awards 2013 كما رُشّح لعدد من الجوائز من بينها" أوسكار" أفضل تصميم ملابس 2014 ورُشحت "فيليستي جونز" لجائزة أفضل ممثلة بمهرجان British Independent Film Awards 2013 ** يبدأ الفلم بمشهد افتتاحي لبحر يملأ الأفق، تتماهى الحدود بين الأرض والبحر والسماء. "إلين" تمشي بخطوات مسرعة، القدم الصغيرة تغوص في الرمال, صوت الموج العالي يبدأ في الانسحاب تدريجيا متزامنا مع اقتراب الكاميرا من ملامحها وتفاصيلها. تتعالى أنفاسها المتلاحقة. تصل متأخرة من جولة المشي المعتادة، يمكننا أن نرى بوضوح توترا عنيفا يختبيء تحت هذه الملامح الهادئة. إلين تعيش حياتين. حياتها في الزمن الحالي، زوجة لرجل مُحبّ وأم، تقوم بتدريب الصغار على الأداء المسرحي لأعمال تشارلز ديكنز. وحياتها الماضية التي تنتفض بعنف في لحظات قصيرة قبل أن تعود للاختباء مجددا. يسير الفلم في هذين الخطين الزمنيين بالتوازي. وقد أجاد المخرج توظيف الفلاش باك للتنقل بنعومة بين الأزمنة. توظيف الصوت للتعبير عن العالم الداخلي للشخصيات مثير للاهتمام. نلاحظ بوضوح كيف تخفت الأصوات كلها فجأة حين تعود الذكرى حيّة مُغيبّة الحاضر الذي يُصبح هامشا للحكاية. يحلّ الصمت تُصاحبه أنفاس "إلين" البطيئة ونظرتها التي تُحدّق في المطلق الممتدّ أمامها نحو ما لا يُرى. بينما ننسحب إلى داخلها كي نرى مشاهد متقطعة لسرّها الذي عاشته سنوات طويلة. يمكن أن نرى الكاميرا التي تتبع "إلين" من الخلف منذ بداية الفيلم. يُقارب المشهد بصريا ماضيها الذي يتبعها، ويعيش معها كجزء لا يتجزأ من وجودها القلِق. إنها تُبصر الظلال في كل مكان. الكاميرا امتلكت حساسية تمكنّت بها من نقل التوتر والصراع بلا مبالغة أو انتقاص. الصمت، الأصوات، الظلال المنعكسة على نوافذ القطار، البيوت, الديكور الفيكتوري والأزياء.. كل هذه العناصر لعبت دورا جيدا في التعبير عن العالم الداخلي للشخصيات ورسم المحيط الخارجيّ لها. الفلم تمكّن من الرواية بصريا بشكل جميل وحزين متوافق تماما مع المزاج العام للحكاية نفسها. ** العلاقة التي يدور حولها الفلم هي علاقة استثنائية وعاصفة. الأمر لم يكن سهلا, .لا الواقع الذي يلحّ ويمارس ضغطه باستمرار ما بين الشائعات التي بدأت في الظهور في المجتمع الفيكتوري الصارم ، ثم انفصال ديكنز عن زوجته، وموقف عائلته منه من ناحية. وبين الدراما الداخلية التي تنشأ من الصراع المستمر بينهما هما الاثنين.
في خيال بريء يعيش تجربته الأولى، يكون الحب حُلما جميلا لا يُنهيه شيء سوى الموت. أما هنا, فهو صراع مستمر، يتطلب منك النجاة في كل لحظة، من نفسك ومن صورة الآخر ووجوده في نفسك. لا تُذكر كلمة "الحب" مرة واحدة خلال الفلم. لكننا نرى هذا الصمت الذي يقول كل شيء. والذي يُعبّر عنه ديكنز بقوله إن وجودها جزء من وجوده, إنه يراها في الشوارع والكتب والحكايات, يراها في كل شيء بقدر استحالة أن تصير جزءا معترفا به من وجوده الواقعي. ** يبدو السؤال الذي يطرحه الفلم منذ بدايته هو هل ستتغلب "إلين" على داخلها الممتليء بحياة كاملة لا يعرف عنها أحد شيئا كي تتمكن أخيرا من العيش بحضور كامل في واقعها أم لا؟! ماضيها الذي هو عبارة عن حياة قلقة هي ما صاغ تكوينها الداخلي كله. وجدت به نفسها وعرفتها مع الألم والمعاناة التي استمرت بطول هذه العلاقة. يبدو الأمر صعبا، فرغم ما تبدو عليه حياتها من استقرار خارجي إلا أننا نلمس قلقها بوضوح. المشي مسافات طويلة. الأماكن المفتوحة. محاولات يائسة للمس المطلق. تسارع أنفاسها. الصمت. التوتر في ملامحها وارتعاش يدها كلما ذُكر مستر ديكنز وبعد سنوات طويلة من موته. **
هل يمكن إنهاء الفلم دون أن ينتهي الصراع؟ يبدو الأمر مستحيلا. بينما في الحياة ليس ثمة نهايات ربما ! اختار المخرج إنهاء صراعها بإيصاله إلى نقطة ساكنة, حين سمحت "إلين" لنفسها أخيرا بحكي ما بداخلها لأحدهم, ثم قالت إنها لا تريد أن تعيش في هذا المكان الذي عاشت فيه علاقتها بدينكز. حيث الظلال, اللايقين, عدم الارتياح. تذهب لتحتضن زوجها ثم تتسّع ابتسامتها وهي تجلس بجواره. هل كل شيء على ما يرام؟! وكأنها أخيرا وجدت الصلة مع الحياة, هكذا ودون مقدمات. تبدو لي هذه النهاية متناقضة مع طبيعة "إلين" كما قدمّها الفلم, بينما الأقرب كان إيجاد مساحة أكثر ثباتا لقلقها الأصيل دون إنهائه بهذا الشكل الحالم اللامنطقي. ** في المشهد الأخير تقف "إلين" في خلفية العرض المسرحي لديكنز "العمق المتجمد" وهي تقرأ النص الختامي : "هذه قصة حزينة .. هذه قصة مؤلمة . الحب ينكر، الحب يضحي كي يعيش في المستقبل. فلنفكر في قلوبنا في هذا المكان. فلنتذكر الحب، فالحب هو الحياة نفسها. نحن لا شيء بدون الأماني."
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق