في 2 تموز 2012، وبعد عشرة أعوام من تقديمها الخدمات الصادقة المخلصة فرّت الاعلامية علا عباس من عملها في تلفزيون الدولة السورية والتحقت بحركة الانشقاقات عن النظام التي توالت منذ منتصف آذار 2011.
عُلا ومن خلال يومياتها في الأشهر الأخيرة قبل خروجها من سوريا، تنقل شهادات حية، معيشة، موثقة، عن الأحوال التي سادت بلادها.
وبأسلوب حي، سردي، يجمع بين الروائي والاعترافي، ومن خلال المراحل التي مرت بها قبل أن تتخذ قرار "التمرد"، ها هي عُلا (العلوية المذهب وهي غير مذهبية بل وطنية وسورية عربية)، تفضح مجازر النظام، وتصف الأحداث، وأجواء الخوف، والعنف، وزيف الإعلام الرسمي، وأكاذيبه.
عُلا، كأنها حضنت في يومياتها تاريخ بلد عريق ومبدع، حوله النظام الى ساحة للقتل.
هنا شذرات من الكتاب الذي صدر عن "جروس برس، ناشرون".
-I-
استيقظت وأنا أعاني من صداع حاد سببه المشروب، والنوم المتقطع. أهملت "جوي" كأنني لا أراه، حضّرت النسكافيه والحليب، واتصلت بوائل عبر الخليوي، فلم يرد، اتصلت بميساء، فردّت بصوت متهدج وضعيف وباكٍ:
ـ عُلا اعتقلوا وائل منذ البارحة مساء.
ـ أين أنتِ؟
ـ في المنزل.
ـ أنا قادمة.
ارتديت ملابسي وخرجت كالمجنونة، ولم أصطحب معي "جوي". وصلت الى منزل ميساء، فوجدتها بصحبة أختها، وكانت تبدو كمومياء خارجة من بين الأموات للتو:
ـ هل علمتم أين هو؟
ـ لا حتى الآن لم نعلم، إلا أن مجد يحاول أن يعرف.
مجد كان صديقاً مشتركاً بيننا، وتجمعه بوائل صداقة قديمة، تتجاوز في عمرها صداقتي بهما هما الاثنين. سألتها:
ـ ما التهمة؟
ـ التظاهر.
ـ وكيف اعتقلوه؟
ـ جاء أربعة رجال واعتقلوه من البيت من دون أن يقولوا شيئاً، سألوه هل أنت وائل؟ فأجاب: نعم، فأخذوه ووضعوه في سيارة سوداء كبيرة.
بدت ميساء كأرملة فقدت زوجها، لأن الاعتقال في سوريا يُشبه الموت، فمصير المعتقلين مجهول، بالإضافة الى التعذيب الجسدي والجنسي الذي يتعرضون له، فقدت مقدرتي على الكلام، وأنا أستمع الى صوتها المبحوح، لم أتمكن من تخفيف قلقها، لأنني كنت أنا نفسي خائفة على مصير وائل. كانت تجلس ثم تنتفض، تقف، تمشي، وتعود بحركة عُصابية متوترة، تجلس مجدداً، وتقف وتمشي بعد لحظات.
لم يتوقف رنين الهاتف الأرضي أو الموبايل، كان أفراد عائلتها وعائلة وائل يتصلون للإطمئنان عليهما بعد أن شاع النبأ، وكانت في كل مرة تعيد القصة نفسها وتبكي الى أن اختفى صوتها، وصار أشبه بالفحيح. إصفرّ وجهها الى درجة بدت فيها مصابة بداء الريقان، غارت عيناها حتى أصبحتا مغارتين غارقتين في وجهها، وشعرتُ أنها نقصت عشر كيلوغرامات في هذه الساعات القليلة. لم تأكل شيئاً، فقط كانت تدخن، وتدخن، وتدخن الى أن بدت أصابعها النحيلة أشبه بمداخن البيوت في الشتاء. لم تنم ميساء يومها، واستمرت في البكاء والنشيج، الى أن تحوّلت أوداج رقبتها الى حبال غليظة، ولم تهدأ قليلاً الى أن علمت أنه في فرع الأمن السياسي وأنه كان بخير مقارنة بغيره من المعتقلين السابقين.
كان خوف ميساء مبرراً، فمعظم المعتقلين كانوا قد تعرضوا لعمليات تعذيب وحشية، رأينا آثارها على أجساد المعتقلين الذين تمكنوا من الخروج أحياء عبر أشرطة فيديو، كان يتناقلها اليوتيوب والفيسبوك والفضائيات والناشطون بكثرة.
بعد حوالى أسبوعين خرج وائل، وأعتقد أن سرعة خروجه تعود الى كونه درزيا، كان النظام في البدايات يتجنب إثارة استياء الطائفتين الدرزية والمسيحية، ويتعامل مع ناشيطها بطريقة أفضل من غيرهم، متعمداً خلق النعرات الطائفية.
بكت ميساء كثيراً عند رؤيته، أما هو فكان هادئاً وشامخاً كجبل، وبدا غير خائف ولا نادم. سألته عما حدث معه فأجابني:
ـ وضعوني في السيارة مع مجموعة من المعتقلين، وضربونا على ظهورنا، ضربني أحدهم بعقب بندقيته على ظهري فصرخت من الألم. المعتقل الآخر الذي كان الى جانبي أكل ضربة على رأسه وسقط مغمياً عليه. بعدها، وضعوا عصبات على عيوننا ولم نعرف وجهتنا، عندما فكوا العصبات عن عيوننا وجدنا أنفسنا في ساحة واسعة مليئة بعناصر الأمن. ألقى بنا العناصر على الأرض، ورفسني أحدهم بقدمه على ظهري، وقال:
ـ قول الله سوريا بشار وبس.
لم أجب، فضربني ضربة أقوى وكرر:
ـ قول: الله سوريا بشار وبس.
أيضاً لم أجب، الى أن ضربني ضربة كادت تكسر عظامي فقلت بصوت صاغر وضعيف:
ـ الله سوريا بشار وبس، فتركني بعدها وتوقف عن ضربي. أحد المعتقلين رفض أن يقول العبارة، فاستمروا في ضربه الى أن نزل الدم من رأسه وأغمي عليه. ساقونا بعدها الى غرفة كبيرة. كدّسونا فيها نحن وبقية المعتقلين، كنا حوالى ثلاثمئة ناشط في هذه الغرفة. كنا ننام على الواقف ونجلس القرفصاء أحياناً من شدة التعب، إلا أننا لم نكن نستطيع الجلوس دفعة واحدة لضيق المكان، فنتناوب على ذلك. كنا نتبول في علب بلاستيكية حصلنا عليها عن طريق أحد الجنود الطيبين، ونضطر لشرب الماء بها نفسها. في إحدى المرات بدأ المعتقلون بترديد شعارات مناوئة للنظام بصوت خفيض علت وتيرته شيئاً فشيئاً، فجاء عناصر الأمن للتحقق مما يجري. ابتسم وائل وتابع:
ـ أنا وبعض الشباب أقنعنا عناصر الأمن بأن الصوت آت من التلفاز في غرفة الضابط المناوب فصدقوا، لأنهم ببساطة لم يتوقعوا أن يمتلك المعتقلون هذه الجرأة الأسطورية على تحدي النظام في داخل السجن ذاته.
توقف عن الحديث، وتأمل زوجته المنهارة شوقاً وخوفاً عليه، سألته:
ـ هل كان هناك متدينون؟
ـ معظمهم سنّة من دوما، ولم ألمح فيهم متطرفين، كان بينهم إمام جامع وكان لطيفاً جداً، كنا نحن حوالى عشرة معتقلين من الطوائف الأخرى.
وائل أخبرنا أنه لن يتظاهر بعدها، مستسلماً لتوسلات ودموع زوجته المرعوبة من فقدانه. كان التظاهر في تلك الفترة محصوراً فقط في بعض ضواحي الريف الدمشقي والأحياء الدمشقية، التي تمكن سكانها من تشكيل طوق بشري حولها لحماية المتظاهرين من قوات الأمن، مثل دوما والمعضمية والقابون وركن الدين وداريا وبرزة. وكان الوصول الى تلك المناطق للتظاهر ضرباً من الجنون، بسبب الانتشار الكثيف للحواجز المدجّجة بالسلاح، وعناصر الجيش والأمن، التي كانت تفتش وتدقق في أسماء وهويات ووجوه وحقائب وسيارات وعيون وأنفاس المارة، وكان مرور معتقل سابق عبر تلك الحواجز ضرباً من الجنون.
أنا كنت لا أصدق وائل، وأعتقد أنه لم يتوقف يوماً عن التظاهر.
اليوم، عندما أتذكر وائل وعينيه القويتين والصاخبتين كشمس في يوم صيفي قائظ، أدرك تماماً أنهما كانا سبيلي كي أرى الحقيقة التي هربت منها كي لا أرحل، وكي لا أضطر الى مفارقة بيتي وسرير كمال، وأصدقائي وأمي وقبلات كلبي وشجرتيْ الليمون الصغيرتين، وعالمي الصغير الذي نسجته قطعة قطعة، كما تحيك الأمهات أثواب الغائبين.
هربت من متابعة الأخبار وفيديوهات تعذيب المعتقلين المنشورة على صفحات الفيسبوك واليوتيوب، هربت من رؤية المظاهرات وجهاً لوجه، وحين عرض عليّ "مجد" مرافقته لرؤية المظاهرات من بعيد رفضت، لأني في أعماقي كنت خائفة من المواجهة، من رؤية الحقيقة عارية من أثوابها، ولو أنني فعلت لكنت تظاهرات وسجنت بالتأكيد.
هي مرة وحيدة تلك التي قررت فيها التظاهر ففشلت. كنت أرغب بالهتاف: الشعب يريد إسقاط النظام، والعودة بعدها الى ذراعيّ صلاح كي أقول له إن الحب والثورة صنوان توأمان، وأني لا يمكن أن أحبه وأنا عبدة، كنت أرغب بالتظاهر من دون أن أعتقل وأغتصب وتمتد أيادي الشبيحة الى جسدي، كنت أريد الصراخ في وجه قتلة الأطفال، من دون أن يقتلعوا لساني وصوتي وعذرية روحي. لكن ذلك مستحيل، فاخترت أن أبقى وأن أغمض عيني عن الحقيقة، من دون أن أعلم أن قدراً آتياً أبيض وناصعاً وبريئاً كالأطفال سيرغمني على التمرّد، وسيُقضي على آلاف السنين من الخوف الجماعي. كنت امرأة من عالمين من وجهين وشخصيتين، خائفة وجبانة تريد أن تصمت لأنها اعتادت على الموت، وأخرى قوية وشجاعة وتريد أن تتمرّد لأنها تعشق الحياة. وبين هذين العالمين عشت قمة الجنون.
في تلك الليلة، وبعد عودتي من بيت وائل، لم أتمكن من النوم رغم تناولي حبّتي مهدئ، واجتاحتني صور المعتقلين وصرخات تعذيبهم في السجون، ولم أتمكن من منع نفسي من التلصص على الفيسبوك ومتابعة القصص التي حدثني عنها وائل والتي رأى هو بنفسه جزءاً منها. رأيت صوراً لأطفال تعرضوا للضرب والتعذيب والتجويع والاغتصاب من قبل قوات الأمن، وقرأت شهادات لمعتقلين تؤكد ذلك، ومما قرأته:
"قابلت "هيومن رايتس ووتش" عدداً من المعتقلين البالغين وعناصر منشقة من قوات الأمن أكدوا وجود وتعذيب الأطفال في مراكز الاحتجاز في شتى أنحاء سوريا. "سامح" معتقل بالغ مفرج عنه، تمّ احتجازه في منشأة للأمن السياسي في اللاذقية، قال لـ"هيومن رايتس ووتش" ان الأطفال تعرضوا لمعاملة أسوأ من البالغين، بما في ذلك الانتهاكات الجنسية، لأنهم أطفال.
كنا نحو 70 شخصاً الى 75 في زنزانة جماعية مساحتها 3×3 أمتار. كنا ننام وركبنا مضمومة الى صدورنا. بعض الناس كسرت أيديهم وأرجلهم أو تورّمت رؤوسهم. كان هناك صبية في سن 15 عاماً و16 في الزنزانة معنا، ستة أو سبعة منهم تمّ خلع أظافرهم وتورّمت وجوههم من الضرب. كانوا يعاملون الصبية معاملة أسوأ من البالغين. كان هناك تعذيب، لكن الاغتصاب أيضاً للصبية. كنا نراهم عندما يعيدهم الحرس الى الزنزانة، مشهد مروع، لا يمكنك الحديث عنه. عاد صبي الى الزنزانة وهو ينزف من الخلف. لم يكن قادراً على السير. كان شيئاً يفعلونه مع الصبية ببساطة. كنا نبكي على حالهم.
كيف لكائن بشري أن ينام بعد هذه القصص؟؟ في الحقيقة غفوت كدابّة!!
-II-
الحب كالموت يأتي فجأة، وفي سوريا أصبحت القنابل أقرب بكثير من الحب. بدأ مسلسل التفجيرات في دمشق في 23 كانون الأول 2011 قبل عيد الميلاد بيومين، وكان هذا أول اضطراب حقيقي يزلزل سبات سكان المدينة الغارقين في النوم واللامبالاة.
كان يوم جمعة، قلقاً مضطرباً، ومشحوناً بالتوتر كعادته في مثل هذا اليوم، الذي أصبح يوماً رسمياً للتظاهر ضد الأسد، بعد أن اختاره الثوار منذ بدايات الثورة للتجمع في الجوامع أثناء الصلاة. وهو طقس يواظب عليه المسلمون والمعتدلون للدلالة الدينية والاجتماعية التي حملها عبر الزمن، وكنت أعرف سوريين يشربون الكحول في الأيام العادية، ولا يحجبون زوجاتهم، ولا يصلون، إلا أنهم يتوجهون الى الجوامع يوم الجمعة، لأداء الصلاة في طقس أصبح اجتماعياً أكثر منه دينياً.
في سوريا كانت التجمعات ممنوعة منذ أيام حافظ الأسد حسب قانون الطوارئ الشهير، مما جعل الجوامع أيام الجمع المكان الوحيد المتاح أمام الثوار للتجمع قبل الخروج في المظاهرات، وذلك قبل أن يحاصر النظام فيما بعد معظم الجوامع ويقصف بعضها.
كان المعارضون من العلمانيين والأقليات الدينية يندسون بين حشود المصلين ويدّعون الصلاة كي لا يلفتوا نظر عناصر الأمن المنتشرين بكثرة في الجوامع، ثم يخرجون مع حشود المصلين للتظاهر. أخبرني أحد المتظاهرين المسيحيين مرة، أنه ارتبك في الجامع أثناء أداء الصلاة، لأنه لم يكن يعرف كيف يصلّي، ولولا انشغال عناصر الأمن بغيره من المصلين، لكان افتضح أمره، وأضحكني كثيراً عندما قال لي أنه ارتبك ارتباكاً شديداً واحمرّ وجهه وأذناه من الخوف، لولا أن أحد المصلين الواقفين الى جانبه أنقذه وعلّمه ماذا يفعل، في ابتسامة تشير الى أنه كان من الثوار أيضاً.
كان يوم الجمعة هو الأكثر قلقاً وعملاً بالنسبة لأجهزة الأمن والمخابرات التي كانت تغطي كل شوارع المدينة والساحات ونقاط التظاهر المحتملة أمام الجوامع والطرقات القادمة من ريف دمشق والأوتوسترادات القادمة من باقي المحافظات. وكانوا ينتشرون كالخفافيش بين البيوت وفي الأزقة وفي الأسواق، ويتلفتون حولهم كصيادين يترقبون ظهور الفريسة في أي لحظة. وعلى حواجز التفتيش المعلنة كانت أيادي عناصر الجيش على الزناد، وفي عيونهم خوف وحزن.
كنت أستعد لعملي في الإذاعة في فترة ما بعد الظهر، حين بثّت قناة الجزيرة نبأ انفجار وقع في دمشق. تابعت الفضائية السورية، وبدا الاضطراب والذعر واضحاً على وجوه المذيعين وضيوف البرامج، فوصول التفجيرات الى دمشق سرق راحة وهدوء المتجاهلين لوجود أي اضطرابات أخرى في سوريا حتى تلك اللحظة. ولم يكن ممكناً بعدها الادعاء بأن الأمور بخير وأن سوريا بخير كما قال الأسد في خطابه الهزلي الأخير، مكرساً فيه فكرة المؤامرة ومقدرته على السيطرة عليها. بدا واضحاً يومها أن سوريا ليست بخير، وأن الموت أصبح قريباً من المؤيدين والحياديين أيضاً، وهو أمر لم يكن بجديد على الثوار الذين كانوا يقتلون منذ أول الثورة.
تسمّرت أمام التلفاز وراقبت بهلع وذهول الصور التي كانت تبثها الفضائية السورية، أجساد متفحمة، ووجوه مشوّهة ملامحها مختفية بالكامل، ولا يوجد فيها إلا حفر سوداء وغائرة لما كان عيوناً وأنوفاً وشفاهاً، رؤوس على شكل جماجم عظمية مشوية وسوداء، أشلاء مبعثرة هنا وهناك، قطع لحم بشري متفحم وساخن وكأنه خارج للتو من حفلة شواء مجنونة، أمعاء متطايرة، أقدام وأذرع مرمية هنا وهناك. وعلى مقاعد السيارات وباصات نقل الركاب بقع من دم مشوي، ودم مستمر في التبخر، وآثار لأجساد بشرية كانت قبل دقائق من الانفجار تمتلك أحلاماً وماضياً وعائلات وأطفالاً وأحبة وألبومات صور وذكريات وملابس معلقة على حبل غسيل معطّر، وأسرة دافئة تؤمن لها السكينة بعد نهار مليء بالشقاء والعمل والأفراد والحب والخيبات. مشهد الرعب الحقيقي هذا لم يكن يحتاج الى كومبارس وممثلين ومؤثرات بصرية وأكياس دماء مزيفة. كان حقيقياً الى حد الكذب، وسيرافقنا طويلاً في سلسلة التفجيرات التي بدأت يومها ولم تتوقف.
لم نكن معتادين التفجيرات، ولا على رؤية مشاهد من هذا النوع إلا عبر شاشات التلفزة التي كانت تنقل ما يجري في فلسطين والعراق ولبنان سابقاً. وبدا الوضع مختلفاً حين اقترب الرعب الى هذا الحد، فمراقبة الموت والجثث عبر الشاشات أمر مختلف كلياً عن رائحة اللحم المحروق التي كانت تملأ الهواء آتية من المناطق الثائرة وأماكن التفجيرات، هنا يصبح من الصعب جداً الحديث بحيادية، لأن الموت يصبح في متناول اليد.
أعلن الإعلام السوري أن التفجيرين حدثا ما بين التاسعة والحادية عشرة صباحاً بجانب مقرّين أمنيين ضخمين وشهيرين في حيّي كفرسوسة والجمارك القريبين من ساحة الأمويين، وأوديا بحياة أربعة وعشرين شخصاً، وجرح 150 معظمهم من المدنيين. وانشغل بالحديث عن المؤامرة على سوريا وعلى شخص الرئيس من دون أن تشرح أي تفاصيل عن كيفية وقوع الحادث أو عن هوية واضحة للمنفذين.
-III-
[ "جبهة النصرة"
فيما بعد، اتهم النظام جبهة أسماها "جبهة النصرة"، ووصفها بالتكفيرية، وأعلن أنها أصدرت بياناً يتبنى العملية من دون أن يأتي بأي دليل على ذلك، سوى ورقة مطبوعة تعلن فيها الجبهة مسؤوليتها عن ذلك. وحمّل المعارضة مسؤولية الفوضى في سوريا. المعارضة بدورها اتهمت النظام أنه هو من قام بالعملية، وأن جبهة النصرة هي تنظيم صنعته المخابرات السورية لينفذ عمليات محددة تتهم من خلالها المعارضة بالإرهاب والتطرّف، وبأن الجثث المتفحمة هي جثث عناصر من الجيش ميتين أصلاً قتلهم النظام لمحاولتهم الانشقاق، ثم استخدمهم ككومبارس في مسلسل الرعب الحيّ، أما نحن الإعلاميين، فكنا صامتين كأصنام ومستغربين تماماً كيف تمكنت سيارتان مفخختان من عبور كل هذه الحواجز الأمنية والوصول الى هذين الحيين المدجّجين أصلاً بترسانة عسكرية ودرع بشري هائل من قوى الأمن التي لا يمكن اختراقها.
وفي قائمة الاحتمالات المفتوحة، بدا المواطن العادي غير حافل بالتأويلات بقدر اهتمامه أن يعود حياً الى أسرته، بدل أن يعود معبأ في تابوت أو في كيس لحم مشوي.
سيستمر النظام في نسب التفجيرات التي ستحدث فيما بعد في مواقع ملأى بالتعزيزات الأمنية في دمشق الى جبهة النصرة، وسيكون هناك احتمالان برأيي: الأول أنها مدبّرة من قبل النظام الذي اعتاد على فعل ذلك في أحداث الثمانينات ليتّهم المعارضة بأنها إرهابية، والثاني أن النظام مخترق أمنياً من قبل عناصره أنفسهم، كي تتمكن المعارضة أن تجتاز كل هذه الترسانة الأمنية والعسكرية. وستبدو الاحتمالات غير مهمة أمام الرعب الذي سيحيق بوجوه الناس الذين لن يخرجوا من بيوتهم في أيام كثيرة مقبلة بعد أن يصبح مشهد الأشلاء المتناثرة والطازجة جزءاً من طقوسهم اليومية.
اضطررت يومها للخروج من المنزل والتوجه الى الإذاعة، وسلكت طريق المحلّق الجنوبي الذي اعتدت على استخدامه للوصول الى كفرسوسة ثم الجمارك ثم ساحة الأمويين. وكان الطريق الفرعي المؤدي الى كفرسوسة مغلقاً لمحاذاته لمبنى أمن الدولة حيث وقع التفجير، وكان رجال الأمن والجيش قد أغلقوا كل الطرقات المؤدية الى مكان الحادث، وطوّقوها كلياً عبر عشرات الحواجز، فاضطررت الى سلوك طريق أطول إلا أنه لم يستغرق معي وقتاً طويلاً، لأن الشوارع كانت مقفرة تماماً، إلا من سيارات رجال الأمن المسرعة كالبرق أو السيارات الأمنية المتباطئة لمراقبة حركة المارة.
اعتادت شوارع دمشق أن تخلو من المارة والسيارات في فترات الصباح والظهيرة في أيام الجمعة منذ بدء الثورة، ثم تبدأ الحركة بالسريان في أوصال المدينة في الساعة الرابعة، وقت توجهي الى الإذاعة، إلا أن الشوارع بقيت مقفرّة في ذاك اليوم كما ستبقى عموماً في أيام الجمع وتحديداً في أيام الانفجارات التي بدأت في ذلك اليوم، ولن تتوقف لاحقاً(...).
حضرت جورجيت مائدة عامرة، كما في الأحوال العادية والأعياد أيضاً، ثم جاءت قريبتها لزيارتها ومعها ابنها الشاب ذي العشرين عاماً، شربنا الشاي بالقرفة الدمشقية الحارة والمثيرة للحواس، وبدأنا الحديث عن وضع البلد، تحدثت أمامهم بحرية وقلت ما أفكر به، وأخبرتهم عن ضرورة تنحي بشار، وإلاّ سيأخذ البلد الى الخراب. لم تجب أي واحدة منهما لا بالنفي ولا بالإيجاب، واكتفيا بالصمت. تحدثت مع ابن السيدة المسيحية العاطل عن العمل وذي الستة والعشرين عاماً:
ـ هل وجدت عملاً؟
ـ لا، الأوضاع الاقتصادية متدهورة جداً ولا توجد فرص عمل، على العكس هناك بعض الشركات التي بدأت بتسريح موظفيها.
ثم ابتسم لي وقال ببراءة وفخر:
ـ لقد عرضوا عليّ أن أعمل معهم.
سألته:
ـ من؟؟
فأجاب:
ـ شباب من الساحل وبعض المناطق الأخرى يعملون لقمع التظاهرات، وقد عرضوا عليّ سلاحاً ومبلغاً من المال يعادل راتب موظف.
صرخت الأم متدخّلة:
ـ هذا مستحيل، هل تريد أن تموت برصاصة طائشة يا ولدي؟
دهشت أنا من فكرة أن يشارك شاب في هذا العمر في قتل المتظاهرين، ودهشت أكثر من هذا التجييش الكبير للأقليات من قبل النظام، واستغربت كيف فكّرت والدة الشاب بالرصاصة التي قد تصيب ابنها، ولم تفكر في الرصاص الذي يقتل المتظاهرين.
[المسيحيون خائفون
الأحياء المسيحية في دمشق اعتادت على وضع الزينة والأضواء في الأعياد، حيث تتحول ساحات باب توما والقصاع والغساني الى كرنفالات من الألوان والفرح. وكنا في عيدي الميلاد ورأس السنة نتعمّد الذهاب الى هذه المناطق لرؤية البهجة المشعة من شرفات المنازل وأبوابها وحدائقها. في ذاك العام أعلنت الطوائف المسيحية أنها لن تحتفل تضامناً مع شهداء سوريا من الجيش والقوات المسلحة والمدنيين من ضحايا الانفجار، إلا أن أحداً لم يجرؤ على ذكر شهداء الثورة المستمرين في الموت.
كان معظم المسيحيين خائفين وصامتين، خائفين من قمع النظام من جهة ومن رواية المتطرفين من جهة أخرى. عاش المسيحيون والمسلمون في أحياء مشتركة على مدى قرون، ولم تقع أي مشكلة بينهم، إلا أن التجربة المسيحية في العراق كانت ترعبهم، حيث اضطر الكثير منهم الى مغادرة بلادهم والهجرة الى بلدان أخرى، كما كانت الفوضى والانفجارات المستمرة في العراق وفي ليبيا بعد سقوط القذافي تخيفهم من المجهول.
كان لديّ الكثير من الأصدقاء المسيحيين، وأجزم أنهم لم يكونوا مع بشار، بل كانوا ضد التطرّف والفوضى. في الحقيقة نجح النظام في إقناعهم بأن الثوار عصابات مسلحة عبر إرغامه للمعتقلين على الاعتراف أمام الكاميرات بأنهم إرهابيون أو تسجيل اعترافات لسجناء بجرائم سرقات وقتل، كما فشلت المعارضة الحديثة العهد بالسياسة بطمأنتهم وتقليص مخاوفهم من القادم المجهول، فبقوا صامتين ومتفرجين ومضطربين.
أخبرني صديقي في التلفزيون أنه رأى بعينيه الشريط الأصلي لشريط ملفق وقال: جلس المعتقل وهو يترنح من شدة التعذيب وبدأ ضابط المخابرات يلقنه الكلام. المعتقل كان شاباً صغيراً، وبدا أنه لم يتمكن من حفظ المعلومات بسرعة، فأخفق مرات عديدة اضطرتهم الى إعادة التسجيل. وفي كل مرة كانوا يحذفون المشاهد المعادة كي لا يراها أحد سوى هم والمصور المؤتمن، إلا أن مقطعاً بقي على حاله نتيجة خطأ أو سهو، فرأيته وهو يقول له: نسيت يا سيدي، ثم يقرأ الكلمات من ورقة مكتوبة.
بعض المعتقلين كانوا يرفضون الاعتراف بأشياء لم يرتكبوها، فيخضعون لتعذيب أكثر وحشية، أما من يستجيبون، فكانوا يخروجون من السجن عبر مجموعة من مراسيم العفو الرئاسي التي كان بشار الأسد يُصدرها كل فترة، ليخرج اللصوص وقطّاع الطرق ومرتكبو الجنايات ويحوّلهم الى شبيحة بعدها.
استنفر الإعلام السوري لتلفيق اعترافات تم كشف زيف وكذب الكثير منها من قبل الناشطين. عرض التلفزيون اعترافاً لشخص اسمه أحمد سلوايا أبو نظير أكد فيه أنه إرهابي. والأمر المثير للضحك أن أبو نظير مريض عقلياً، وقد ثبت ذلك بالدليل القاطع حسب وثائق رسمية تؤكد أنه سرح من خدمة العلم الإلزامية سابقاً بعد تقرير من طبيب الأمراض العقلية.
التلفزيون عرض فيديو اعتراف أبو نظير لأيام متتالية، وكان واضحاً من حركات ونظرات المعترف أنه غير طبيعي، مما جعل قصة اعترافه دعابة في أوساط السوريين المعارضين والحياديين. أما المؤيدون، فلم تكن لديهم رغبة برؤية الحقيقة. وتحول أبو نظير الى نجم كوميدي بامتياز، ولا سيما بعد نشر أوراق جنونه الرسمية على اليوتيوب والفيسبوك، مصورة بكاميرا موبايل دقيقة.
في الحقيقة، لعبت كاميرات الموبايل ووسائل التواصل الاجتماعي دور البطولة في الثورة السورية، لأن كاميرات الهواتف المحمولة تمكنت من نقل جزء مما يجري على الأرض، ولو أن الثورة حدثت في عهد بعيد عن هذه التقنيات، لكان السوريون ذبحوا بصمت مطبق.
كانت ثقة الناس ضعيفة أساساً بالإعلام السوري، فلجؤوا الى المحطات العربية ومقاطع الفيديو التي لا تقبل الشك، وعجّت الصفحات المعارضة بفيديوهات تؤكد كذب النظام، مثل قصة أبو نظير، وامتلأت مواقع اليوتيوب بلقاءات أجراها التلفزيون السوري ولم يعرضها. أحد اللقاءات كان مع متظاهر جريح وموجود في المشفى، أكد فيه أن قوات الجيش أطلقت عليهم النار بغزارة، ولم يكن بحوزتهم أي سلاح. فيديو آخر كان يصوّر إمرأة تتقاضى أجراً من شبيح كي تتحدث عن أن الأمن في سوريا مستتب. فيديو آخر ظهر فيه الشبيح نفسه أربع مرات، في لقاءات مختلفة مع التلفزيون السوري ليشهد على الأوضاع في دير الزور، مما يؤكد أن هناك اتفاقا ضمنيا بينهما.
ومن أكثر القصص شهرة قصة فيديو قرية البيضا في بانياس حيث اعتقل عناصر الأمن المتظاهرين، ورموهم على الأرض، وبدأوا يدوسون عليهم ويشتمونهم ويطالبونهم بتأكيد ولائهم لبشار. التلفزيون السوري كذب الفيديو، وادعى أنه مصور في العراق، وبعدها بث الناشطون المعارضون تصويراً لساحة البيضا وهو مطابق تماماً للساحة في التسجيل الأول.
أيضاً هناك قصة الشابة الناشطة "ولاء مورلي" التي اعتقلتها قوات النظام، وظهرت على شاشة التلفاز السوري لتعترف أنها إرهابية وتدعم الإرهاب، ثم أفرج النظام عنها، فهربت الى تركيا، وتحدثت عن إرغام أجهزة الأمن لها على الاعتراف بعد تهديدها بالاغتصاب والقتل، طبعاً الاغتصاب بالنسبة لفتاة شرقية أصعب من الموت. وأعتقد أنه كذلك بالنسبة لمعظم النساء.
نحن في الإذاعة كنا نبث كل التسجيلات بالصوت، وكنا نعيدها عشرات المرات. وأعترف أني كنت استمع الى بعضها حين اضطر الى ذلك عند إذاعتها(..).
عُلا ومن خلال يومياتها في الأشهر الأخيرة قبل خروجها من سوريا، تنقل شهادات حية، معيشة، موثقة، عن الأحوال التي سادت بلادها.
وبأسلوب حي، سردي، يجمع بين الروائي والاعترافي، ومن خلال المراحل التي مرت بها قبل أن تتخذ قرار "التمرد"، ها هي عُلا (العلوية المذهب وهي غير مذهبية بل وطنية وسورية عربية)، تفضح مجازر النظام، وتصف الأحداث، وأجواء الخوف، والعنف، وزيف الإعلام الرسمي، وأكاذيبه.
عُلا، كأنها حضنت في يومياتها تاريخ بلد عريق ومبدع، حوله النظام الى ساحة للقتل.
هنا شذرات من الكتاب الذي صدر عن "جروس برس، ناشرون".
-I-
استيقظت وأنا أعاني من صداع حاد سببه المشروب، والنوم المتقطع. أهملت "جوي" كأنني لا أراه، حضّرت النسكافيه والحليب، واتصلت بوائل عبر الخليوي، فلم يرد، اتصلت بميساء، فردّت بصوت متهدج وضعيف وباكٍ:
ـ عُلا اعتقلوا وائل منذ البارحة مساء.
ـ أين أنتِ؟
ـ في المنزل.
ـ أنا قادمة.
ارتديت ملابسي وخرجت كالمجنونة، ولم أصطحب معي "جوي". وصلت الى منزل ميساء، فوجدتها بصحبة أختها، وكانت تبدو كمومياء خارجة من بين الأموات للتو:
ـ هل علمتم أين هو؟
ـ لا حتى الآن لم نعلم، إلا أن مجد يحاول أن يعرف.
مجد كان صديقاً مشتركاً بيننا، وتجمعه بوائل صداقة قديمة، تتجاوز في عمرها صداقتي بهما هما الاثنين. سألتها:
ـ ما التهمة؟
ـ التظاهر.
ـ وكيف اعتقلوه؟
ـ جاء أربعة رجال واعتقلوه من البيت من دون أن يقولوا شيئاً، سألوه هل أنت وائل؟ فأجاب: نعم، فأخذوه ووضعوه في سيارة سوداء كبيرة.
بدت ميساء كأرملة فقدت زوجها، لأن الاعتقال في سوريا يُشبه الموت، فمصير المعتقلين مجهول، بالإضافة الى التعذيب الجسدي والجنسي الذي يتعرضون له، فقدت مقدرتي على الكلام، وأنا أستمع الى صوتها المبحوح، لم أتمكن من تخفيف قلقها، لأنني كنت أنا نفسي خائفة على مصير وائل. كانت تجلس ثم تنتفض، تقف، تمشي، وتعود بحركة عُصابية متوترة، تجلس مجدداً، وتقف وتمشي بعد لحظات.
لم يتوقف رنين الهاتف الأرضي أو الموبايل، كان أفراد عائلتها وعائلة وائل يتصلون للإطمئنان عليهما بعد أن شاع النبأ، وكانت في كل مرة تعيد القصة نفسها وتبكي الى أن اختفى صوتها، وصار أشبه بالفحيح. إصفرّ وجهها الى درجة بدت فيها مصابة بداء الريقان، غارت عيناها حتى أصبحتا مغارتين غارقتين في وجهها، وشعرتُ أنها نقصت عشر كيلوغرامات في هذه الساعات القليلة. لم تأكل شيئاً، فقط كانت تدخن، وتدخن، وتدخن الى أن بدت أصابعها النحيلة أشبه بمداخن البيوت في الشتاء. لم تنم ميساء يومها، واستمرت في البكاء والنشيج، الى أن تحوّلت أوداج رقبتها الى حبال غليظة، ولم تهدأ قليلاً الى أن علمت أنه في فرع الأمن السياسي وأنه كان بخير مقارنة بغيره من المعتقلين السابقين.
كان خوف ميساء مبرراً، فمعظم المعتقلين كانوا قد تعرضوا لعمليات تعذيب وحشية، رأينا آثارها على أجساد المعتقلين الذين تمكنوا من الخروج أحياء عبر أشرطة فيديو، كان يتناقلها اليوتيوب والفيسبوك والفضائيات والناشطون بكثرة.
بعد حوالى أسبوعين خرج وائل، وأعتقد أن سرعة خروجه تعود الى كونه درزيا، كان النظام في البدايات يتجنب إثارة استياء الطائفتين الدرزية والمسيحية، ويتعامل مع ناشيطها بطريقة أفضل من غيرهم، متعمداً خلق النعرات الطائفية.
بكت ميساء كثيراً عند رؤيته، أما هو فكان هادئاً وشامخاً كجبل، وبدا غير خائف ولا نادم. سألته عما حدث معه فأجابني:
ـ وضعوني في السيارة مع مجموعة من المعتقلين، وضربونا على ظهورنا، ضربني أحدهم بعقب بندقيته على ظهري فصرخت من الألم. المعتقل الآخر الذي كان الى جانبي أكل ضربة على رأسه وسقط مغمياً عليه. بعدها، وضعوا عصبات على عيوننا ولم نعرف وجهتنا، عندما فكوا العصبات عن عيوننا وجدنا أنفسنا في ساحة واسعة مليئة بعناصر الأمن. ألقى بنا العناصر على الأرض، ورفسني أحدهم بقدمه على ظهري، وقال:
ـ قول الله سوريا بشار وبس.
لم أجب، فضربني ضربة أقوى وكرر:
ـ قول: الله سوريا بشار وبس.
أيضاً لم أجب، الى أن ضربني ضربة كادت تكسر عظامي فقلت بصوت صاغر وضعيف:
ـ الله سوريا بشار وبس، فتركني بعدها وتوقف عن ضربي. أحد المعتقلين رفض أن يقول العبارة، فاستمروا في ضربه الى أن نزل الدم من رأسه وأغمي عليه. ساقونا بعدها الى غرفة كبيرة. كدّسونا فيها نحن وبقية المعتقلين، كنا حوالى ثلاثمئة ناشط في هذه الغرفة. كنا ننام على الواقف ونجلس القرفصاء أحياناً من شدة التعب، إلا أننا لم نكن نستطيع الجلوس دفعة واحدة لضيق المكان، فنتناوب على ذلك. كنا نتبول في علب بلاستيكية حصلنا عليها عن طريق أحد الجنود الطيبين، ونضطر لشرب الماء بها نفسها. في إحدى المرات بدأ المعتقلون بترديد شعارات مناوئة للنظام بصوت خفيض علت وتيرته شيئاً فشيئاً، فجاء عناصر الأمن للتحقق مما يجري. ابتسم وائل وتابع:
ـ أنا وبعض الشباب أقنعنا عناصر الأمن بأن الصوت آت من التلفاز في غرفة الضابط المناوب فصدقوا، لأنهم ببساطة لم يتوقعوا أن يمتلك المعتقلون هذه الجرأة الأسطورية على تحدي النظام في داخل السجن ذاته.
توقف عن الحديث، وتأمل زوجته المنهارة شوقاً وخوفاً عليه، سألته:
ـ هل كان هناك متدينون؟
ـ معظمهم سنّة من دوما، ولم ألمح فيهم متطرفين، كان بينهم إمام جامع وكان لطيفاً جداً، كنا نحن حوالى عشرة معتقلين من الطوائف الأخرى.
وائل أخبرنا أنه لن يتظاهر بعدها، مستسلماً لتوسلات ودموع زوجته المرعوبة من فقدانه. كان التظاهر في تلك الفترة محصوراً فقط في بعض ضواحي الريف الدمشقي والأحياء الدمشقية، التي تمكن سكانها من تشكيل طوق بشري حولها لحماية المتظاهرين من قوات الأمن، مثل دوما والمعضمية والقابون وركن الدين وداريا وبرزة. وكان الوصول الى تلك المناطق للتظاهر ضرباً من الجنون، بسبب الانتشار الكثيف للحواجز المدجّجة بالسلاح، وعناصر الجيش والأمن، التي كانت تفتش وتدقق في أسماء وهويات ووجوه وحقائب وسيارات وعيون وأنفاس المارة، وكان مرور معتقل سابق عبر تلك الحواجز ضرباً من الجنون.
أنا كنت لا أصدق وائل، وأعتقد أنه لم يتوقف يوماً عن التظاهر.
اليوم، عندما أتذكر وائل وعينيه القويتين والصاخبتين كشمس في يوم صيفي قائظ، أدرك تماماً أنهما كانا سبيلي كي أرى الحقيقة التي هربت منها كي لا أرحل، وكي لا أضطر الى مفارقة بيتي وسرير كمال، وأصدقائي وأمي وقبلات كلبي وشجرتيْ الليمون الصغيرتين، وعالمي الصغير الذي نسجته قطعة قطعة، كما تحيك الأمهات أثواب الغائبين.
هربت من متابعة الأخبار وفيديوهات تعذيب المعتقلين المنشورة على صفحات الفيسبوك واليوتيوب، هربت من رؤية المظاهرات وجهاً لوجه، وحين عرض عليّ "مجد" مرافقته لرؤية المظاهرات من بعيد رفضت، لأني في أعماقي كنت خائفة من المواجهة، من رؤية الحقيقة عارية من أثوابها، ولو أنني فعلت لكنت تظاهرات وسجنت بالتأكيد.
هي مرة وحيدة تلك التي قررت فيها التظاهر ففشلت. كنت أرغب بالهتاف: الشعب يريد إسقاط النظام، والعودة بعدها الى ذراعيّ صلاح كي أقول له إن الحب والثورة صنوان توأمان، وأني لا يمكن أن أحبه وأنا عبدة، كنت أرغب بالتظاهر من دون أن أعتقل وأغتصب وتمتد أيادي الشبيحة الى جسدي، كنت أريد الصراخ في وجه قتلة الأطفال، من دون أن يقتلعوا لساني وصوتي وعذرية روحي. لكن ذلك مستحيل، فاخترت أن أبقى وأن أغمض عيني عن الحقيقة، من دون أن أعلم أن قدراً آتياً أبيض وناصعاً وبريئاً كالأطفال سيرغمني على التمرّد، وسيُقضي على آلاف السنين من الخوف الجماعي. كنت امرأة من عالمين من وجهين وشخصيتين، خائفة وجبانة تريد أن تصمت لأنها اعتادت على الموت، وأخرى قوية وشجاعة وتريد أن تتمرّد لأنها تعشق الحياة. وبين هذين العالمين عشت قمة الجنون.
في تلك الليلة، وبعد عودتي من بيت وائل، لم أتمكن من النوم رغم تناولي حبّتي مهدئ، واجتاحتني صور المعتقلين وصرخات تعذيبهم في السجون، ولم أتمكن من منع نفسي من التلصص على الفيسبوك ومتابعة القصص التي حدثني عنها وائل والتي رأى هو بنفسه جزءاً منها. رأيت صوراً لأطفال تعرضوا للضرب والتعذيب والتجويع والاغتصاب من قبل قوات الأمن، وقرأت شهادات لمعتقلين تؤكد ذلك، ومما قرأته:
"قابلت "هيومن رايتس ووتش" عدداً من المعتقلين البالغين وعناصر منشقة من قوات الأمن أكدوا وجود وتعذيب الأطفال في مراكز الاحتجاز في شتى أنحاء سوريا. "سامح" معتقل بالغ مفرج عنه، تمّ احتجازه في منشأة للأمن السياسي في اللاذقية، قال لـ"هيومن رايتس ووتش" ان الأطفال تعرضوا لمعاملة أسوأ من البالغين، بما في ذلك الانتهاكات الجنسية، لأنهم أطفال.
كنا نحو 70 شخصاً الى 75 في زنزانة جماعية مساحتها 3×3 أمتار. كنا ننام وركبنا مضمومة الى صدورنا. بعض الناس كسرت أيديهم وأرجلهم أو تورّمت رؤوسهم. كان هناك صبية في سن 15 عاماً و16 في الزنزانة معنا، ستة أو سبعة منهم تمّ خلع أظافرهم وتورّمت وجوههم من الضرب. كانوا يعاملون الصبية معاملة أسوأ من البالغين. كان هناك تعذيب، لكن الاغتصاب أيضاً للصبية. كنا نراهم عندما يعيدهم الحرس الى الزنزانة، مشهد مروع، لا يمكنك الحديث عنه. عاد صبي الى الزنزانة وهو ينزف من الخلف. لم يكن قادراً على السير. كان شيئاً يفعلونه مع الصبية ببساطة. كنا نبكي على حالهم.
كيف لكائن بشري أن ينام بعد هذه القصص؟؟ في الحقيقة غفوت كدابّة!!
-II-
الحب كالموت يأتي فجأة، وفي سوريا أصبحت القنابل أقرب بكثير من الحب. بدأ مسلسل التفجيرات في دمشق في 23 كانون الأول 2011 قبل عيد الميلاد بيومين، وكان هذا أول اضطراب حقيقي يزلزل سبات سكان المدينة الغارقين في النوم واللامبالاة.
كان يوم جمعة، قلقاً مضطرباً، ومشحوناً بالتوتر كعادته في مثل هذا اليوم، الذي أصبح يوماً رسمياً للتظاهر ضد الأسد، بعد أن اختاره الثوار منذ بدايات الثورة للتجمع في الجوامع أثناء الصلاة. وهو طقس يواظب عليه المسلمون والمعتدلون للدلالة الدينية والاجتماعية التي حملها عبر الزمن، وكنت أعرف سوريين يشربون الكحول في الأيام العادية، ولا يحجبون زوجاتهم، ولا يصلون، إلا أنهم يتوجهون الى الجوامع يوم الجمعة، لأداء الصلاة في طقس أصبح اجتماعياً أكثر منه دينياً.
في سوريا كانت التجمعات ممنوعة منذ أيام حافظ الأسد حسب قانون الطوارئ الشهير، مما جعل الجوامع أيام الجمع المكان الوحيد المتاح أمام الثوار للتجمع قبل الخروج في المظاهرات، وذلك قبل أن يحاصر النظام فيما بعد معظم الجوامع ويقصف بعضها.
كان المعارضون من العلمانيين والأقليات الدينية يندسون بين حشود المصلين ويدّعون الصلاة كي لا يلفتوا نظر عناصر الأمن المنتشرين بكثرة في الجوامع، ثم يخرجون مع حشود المصلين للتظاهر. أخبرني أحد المتظاهرين المسيحيين مرة، أنه ارتبك في الجامع أثناء أداء الصلاة، لأنه لم يكن يعرف كيف يصلّي، ولولا انشغال عناصر الأمن بغيره من المصلين، لكان افتضح أمره، وأضحكني كثيراً عندما قال لي أنه ارتبك ارتباكاً شديداً واحمرّ وجهه وأذناه من الخوف، لولا أن أحد المصلين الواقفين الى جانبه أنقذه وعلّمه ماذا يفعل، في ابتسامة تشير الى أنه كان من الثوار أيضاً.
كان يوم الجمعة هو الأكثر قلقاً وعملاً بالنسبة لأجهزة الأمن والمخابرات التي كانت تغطي كل شوارع المدينة والساحات ونقاط التظاهر المحتملة أمام الجوامع والطرقات القادمة من ريف دمشق والأوتوسترادات القادمة من باقي المحافظات. وكانوا ينتشرون كالخفافيش بين البيوت وفي الأزقة وفي الأسواق، ويتلفتون حولهم كصيادين يترقبون ظهور الفريسة في أي لحظة. وعلى حواجز التفتيش المعلنة كانت أيادي عناصر الجيش على الزناد، وفي عيونهم خوف وحزن.
كنت أستعد لعملي في الإذاعة في فترة ما بعد الظهر، حين بثّت قناة الجزيرة نبأ انفجار وقع في دمشق. تابعت الفضائية السورية، وبدا الاضطراب والذعر واضحاً على وجوه المذيعين وضيوف البرامج، فوصول التفجيرات الى دمشق سرق راحة وهدوء المتجاهلين لوجود أي اضطرابات أخرى في سوريا حتى تلك اللحظة. ولم يكن ممكناً بعدها الادعاء بأن الأمور بخير وأن سوريا بخير كما قال الأسد في خطابه الهزلي الأخير، مكرساً فيه فكرة المؤامرة ومقدرته على السيطرة عليها. بدا واضحاً يومها أن سوريا ليست بخير، وأن الموت أصبح قريباً من المؤيدين والحياديين أيضاً، وهو أمر لم يكن بجديد على الثوار الذين كانوا يقتلون منذ أول الثورة.
تسمّرت أمام التلفاز وراقبت بهلع وذهول الصور التي كانت تبثها الفضائية السورية، أجساد متفحمة، ووجوه مشوّهة ملامحها مختفية بالكامل، ولا يوجد فيها إلا حفر سوداء وغائرة لما كان عيوناً وأنوفاً وشفاهاً، رؤوس على شكل جماجم عظمية مشوية وسوداء، أشلاء مبعثرة هنا وهناك، قطع لحم بشري متفحم وساخن وكأنه خارج للتو من حفلة شواء مجنونة، أمعاء متطايرة، أقدام وأذرع مرمية هنا وهناك. وعلى مقاعد السيارات وباصات نقل الركاب بقع من دم مشوي، ودم مستمر في التبخر، وآثار لأجساد بشرية كانت قبل دقائق من الانفجار تمتلك أحلاماً وماضياً وعائلات وأطفالاً وأحبة وألبومات صور وذكريات وملابس معلقة على حبل غسيل معطّر، وأسرة دافئة تؤمن لها السكينة بعد نهار مليء بالشقاء والعمل والأفراد والحب والخيبات. مشهد الرعب الحقيقي هذا لم يكن يحتاج الى كومبارس وممثلين ومؤثرات بصرية وأكياس دماء مزيفة. كان حقيقياً الى حد الكذب، وسيرافقنا طويلاً في سلسلة التفجيرات التي بدأت يومها ولم تتوقف.
لم نكن معتادين التفجيرات، ولا على رؤية مشاهد من هذا النوع إلا عبر شاشات التلفزة التي كانت تنقل ما يجري في فلسطين والعراق ولبنان سابقاً. وبدا الوضع مختلفاً حين اقترب الرعب الى هذا الحد، فمراقبة الموت والجثث عبر الشاشات أمر مختلف كلياً عن رائحة اللحم المحروق التي كانت تملأ الهواء آتية من المناطق الثائرة وأماكن التفجيرات، هنا يصبح من الصعب جداً الحديث بحيادية، لأن الموت يصبح في متناول اليد.
أعلن الإعلام السوري أن التفجيرين حدثا ما بين التاسعة والحادية عشرة صباحاً بجانب مقرّين أمنيين ضخمين وشهيرين في حيّي كفرسوسة والجمارك القريبين من ساحة الأمويين، وأوديا بحياة أربعة وعشرين شخصاً، وجرح 150 معظمهم من المدنيين. وانشغل بالحديث عن المؤامرة على سوريا وعلى شخص الرئيس من دون أن تشرح أي تفاصيل عن كيفية وقوع الحادث أو عن هوية واضحة للمنفذين.
-III-
[ "جبهة النصرة"
فيما بعد، اتهم النظام جبهة أسماها "جبهة النصرة"، ووصفها بالتكفيرية، وأعلن أنها أصدرت بياناً يتبنى العملية من دون أن يأتي بأي دليل على ذلك، سوى ورقة مطبوعة تعلن فيها الجبهة مسؤوليتها عن ذلك. وحمّل المعارضة مسؤولية الفوضى في سوريا. المعارضة بدورها اتهمت النظام أنه هو من قام بالعملية، وأن جبهة النصرة هي تنظيم صنعته المخابرات السورية لينفذ عمليات محددة تتهم من خلالها المعارضة بالإرهاب والتطرّف، وبأن الجثث المتفحمة هي جثث عناصر من الجيش ميتين أصلاً قتلهم النظام لمحاولتهم الانشقاق، ثم استخدمهم ككومبارس في مسلسل الرعب الحيّ، أما نحن الإعلاميين، فكنا صامتين كأصنام ومستغربين تماماً كيف تمكنت سيارتان مفخختان من عبور كل هذه الحواجز الأمنية والوصول الى هذين الحيين المدجّجين أصلاً بترسانة عسكرية ودرع بشري هائل من قوى الأمن التي لا يمكن اختراقها.
وفي قائمة الاحتمالات المفتوحة، بدا المواطن العادي غير حافل بالتأويلات بقدر اهتمامه أن يعود حياً الى أسرته، بدل أن يعود معبأ في تابوت أو في كيس لحم مشوي.
سيستمر النظام في نسب التفجيرات التي ستحدث فيما بعد في مواقع ملأى بالتعزيزات الأمنية في دمشق الى جبهة النصرة، وسيكون هناك احتمالان برأيي: الأول أنها مدبّرة من قبل النظام الذي اعتاد على فعل ذلك في أحداث الثمانينات ليتّهم المعارضة بأنها إرهابية، والثاني أن النظام مخترق أمنياً من قبل عناصره أنفسهم، كي تتمكن المعارضة أن تجتاز كل هذه الترسانة الأمنية والعسكرية. وستبدو الاحتمالات غير مهمة أمام الرعب الذي سيحيق بوجوه الناس الذين لن يخرجوا من بيوتهم في أيام كثيرة مقبلة بعد أن يصبح مشهد الأشلاء المتناثرة والطازجة جزءاً من طقوسهم اليومية.
اضطررت يومها للخروج من المنزل والتوجه الى الإذاعة، وسلكت طريق المحلّق الجنوبي الذي اعتدت على استخدامه للوصول الى كفرسوسة ثم الجمارك ثم ساحة الأمويين. وكان الطريق الفرعي المؤدي الى كفرسوسة مغلقاً لمحاذاته لمبنى أمن الدولة حيث وقع التفجير، وكان رجال الأمن والجيش قد أغلقوا كل الطرقات المؤدية الى مكان الحادث، وطوّقوها كلياً عبر عشرات الحواجز، فاضطررت الى سلوك طريق أطول إلا أنه لم يستغرق معي وقتاً طويلاً، لأن الشوارع كانت مقفرة تماماً، إلا من سيارات رجال الأمن المسرعة كالبرق أو السيارات الأمنية المتباطئة لمراقبة حركة المارة.
اعتادت شوارع دمشق أن تخلو من المارة والسيارات في فترات الصباح والظهيرة في أيام الجمعة منذ بدء الثورة، ثم تبدأ الحركة بالسريان في أوصال المدينة في الساعة الرابعة، وقت توجهي الى الإذاعة، إلا أن الشوارع بقيت مقفرّة في ذاك اليوم كما ستبقى عموماً في أيام الجمع وتحديداً في أيام الانفجارات التي بدأت في ذلك اليوم، ولن تتوقف لاحقاً(...).
حضرت جورجيت مائدة عامرة، كما في الأحوال العادية والأعياد أيضاً، ثم جاءت قريبتها لزيارتها ومعها ابنها الشاب ذي العشرين عاماً، شربنا الشاي بالقرفة الدمشقية الحارة والمثيرة للحواس، وبدأنا الحديث عن وضع البلد، تحدثت أمامهم بحرية وقلت ما أفكر به، وأخبرتهم عن ضرورة تنحي بشار، وإلاّ سيأخذ البلد الى الخراب. لم تجب أي واحدة منهما لا بالنفي ولا بالإيجاب، واكتفيا بالصمت. تحدثت مع ابن السيدة المسيحية العاطل عن العمل وذي الستة والعشرين عاماً:
ـ هل وجدت عملاً؟
ـ لا، الأوضاع الاقتصادية متدهورة جداً ولا توجد فرص عمل، على العكس هناك بعض الشركات التي بدأت بتسريح موظفيها.
ثم ابتسم لي وقال ببراءة وفخر:
ـ لقد عرضوا عليّ أن أعمل معهم.
سألته:
ـ من؟؟
فأجاب:
ـ شباب من الساحل وبعض المناطق الأخرى يعملون لقمع التظاهرات، وقد عرضوا عليّ سلاحاً ومبلغاً من المال يعادل راتب موظف.
صرخت الأم متدخّلة:
ـ هذا مستحيل، هل تريد أن تموت برصاصة طائشة يا ولدي؟
دهشت أنا من فكرة أن يشارك شاب في هذا العمر في قتل المتظاهرين، ودهشت أكثر من هذا التجييش الكبير للأقليات من قبل النظام، واستغربت كيف فكّرت والدة الشاب بالرصاصة التي قد تصيب ابنها، ولم تفكر في الرصاص الذي يقتل المتظاهرين.
[المسيحيون خائفون
الأحياء المسيحية في دمشق اعتادت على وضع الزينة والأضواء في الأعياد، حيث تتحول ساحات باب توما والقصاع والغساني الى كرنفالات من الألوان والفرح. وكنا في عيدي الميلاد ورأس السنة نتعمّد الذهاب الى هذه المناطق لرؤية البهجة المشعة من شرفات المنازل وأبوابها وحدائقها. في ذاك العام أعلنت الطوائف المسيحية أنها لن تحتفل تضامناً مع شهداء سوريا من الجيش والقوات المسلحة والمدنيين من ضحايا الانفجار، إلا أن أحداً لم يجرؤ على ذكر شهداء الثورة المستمرين في الموت.
كان معظم المسيحيين خائفين وصامتين، خائفين من قمع النظام من جهة ومن رواية المتطرفين من جهة أخرى. عاش المسيحيون والمسلمون في أحياء مشتركة على مدى قرون، ولم تقع أي مشكلة بينهم، إلا أن التجربة المسيحية في العراق كانت ترعبهم، حيث اضطر الكثير منهم الى مغادرة بلادهم والهجرة الى بلدان أخرى، كما كانت الفوضى والانفجارات المستمرة في العراق وفي ليبيا بعد سقوط القذافي تخيفهم من المجهول.
كان لديّ الكثير من الأصدقاء المسيحيين، وأجزم أنهم لم يكونوا مع بشار، بل كانوا ضد التطرّف والفوضى. في الحقيقة نجح النظام في إقناعهم بأن الثوار عصابات مسلحة عبر إرغامه للمعتقلين على الاعتراف أمام الكاميرات بأنهم إرهابيون أو تسجيل اعترافات لسجناء بجرائم سرقات وقتل، كما فشلت المعارضة الحديثة العهد بالسياسة بطمأنتهم وتقليص مخاوفهم من القادم المجهول، فبقوا صامتين ومتفرجين ومضطربين.
أخبرني صديقي في التلفزيون أنه رأى بعينيه الشريط الأصلي لشريط ملفق وقال: جلس المعتقل وهو يترنح من شدة التعذيب وبدأ ضابط المخابرات يلقنه الكلام. المعتقل كان شاباً صغيراً، وبدا أنه لم يتمكن من حفظ المعلومات بسرعة، فأخفق مرات عديدة اضطرتهم الى إعادة التسجيل. وفي كل مرة كانوا يحذفون المشاهد المعادة كي لا يراها أحد سوى هم والمصور المؤتمن، إلا أن مقطعاً بقي على حاله نتيجة خطأ أو سهو، فرأيته وهو يقول له: نسيت يا سيدي، ثم يقرأ الكلمات من ورقة مكتوبة.
بعض المعتقلين كانوا يرفضون الاعتراف بأشياء لم يرتكبوها، فيخضعون لتعذيب أكثر وحشية، أما من يستجيبون، فكانوا يخروجون من السجن عبر مجموعة من مراسيم العفو الرئاسي التي كان بشار الأسد يُصدرها كل فترة، ليخرج اللصوص وقطّاع الطرق ومرتكبو الجنايات ويحوّلهم الى شبيحة بعدها.
استنفر الإعلام السوري لتلفيق اعترافات تم كشف زيف وكذب الكثير منها من قبل الناشطين. عرض التلفزيون اعترافاً لشخص اسمه أحمد سلوايا أبو نظير أكد فيه أنه إرهابي. والأمر المثير للضحك أن أبو نظير مريض عقلياً، وقد ثبت ذلك بالدليل القاطع حسب وثائق رسمية تؤكد أنه سرح من خدمة العلم الإلزامية سابقاً بعد تقرير من طبيب الأمراض العقلية.
التلفزيون عرض فيديو اعتراف أبو نظير لأيام متتالية، وكان واضحاً من حركات ونظرات المعترف أنه غير طبيعي، مما جعل قصة اعترافه دعابة في أوساط السوريين المعارضين والحياديين. أما المؤيدون، فلم تكن لديهم رغبة برؤية الحقيقة. وتحول أبو نظير الى نجم كوميدي بامتياز، ولا سيما بعد نشر أوراق جنونه الرسمية على اليوتيوب والفيسبوك، مصورة بكاميرا موبايل دقيقة.
في الحقيقة، لعبت كاميرات الموبايل ووسائل التواصل الاجتماعي دور البطولة في الثورة السورية، لأن كاميرات الهواتف المحمولة تمكنت من نقل جزء مما يجري على الأرض، ولو أن الثورة حدثت في عهد بعيد عن هذه التقنيات، لكان السوريون ذبحوا بصمت مطبق.
كانت ثقة الناس ضعيفة أساساً بالإعلام السوري، فلجؤوا الى المحطات العربية ومقاطع الفيديو التي لا تقبل الشك، وعجّت الصفحات المعارضة بفيديوهات تؤكد كذب النظام، مثل قصة أبو نظير، وامتلأت مواقع اليوتيوب بلقاءات أجراها التلفزيون السوري ولم يعرضها. أحد اللقاءات كان مع متظاهر جريح وموجود في المشفى، أكد فيه أن قوات الجيش أطلقت عليهم النار بغزارة، ولم يكن بحوزتهم أي سلاح. فيديو آخر كان يصوّر إمرأة تتقاضى أجراً من شبيح كي تتحدث عن أن الأمن في سوريا مستتب. فيديو آخر ظهر فيه الشبيح نفسه أربع مرات، في لقاءات مختلفة مع التلفزيون السوري ليشهد على الأوضاع في دير الزور، مما يؤكد أن هناك اتفاقا ضمنيا بينهما.
ومن أكثر القصص شهرة قصة فيديو قرية البيضا في بانياس حيث اعتقل عناصر الأمن المتظاهرين، ورموهم على الأرض، وبدأوا يدوسون عليهم ويشتمونهم ويطالبونهم بتأكيد ولائهم لبشار. التلفزيون السوري كذب الفيديو، وادعى أنه مصور في العراق، وبعدها بث الناشطون المعارضون تصويراً لساحة البيضا وهو مطابق تماماً للساحة في التسجيل الأول.
أيضاً هناك قصة الشابة الناشطة "ولاء مورلي" التي اعتقلتها قوات النظام، وظهرت على شاشة التلفاز السوري لتعترف أنها إرهابية وتدعم الإرهاب، ثم أفرج النظام عنها، فهربت الى تركيا، وتحدثت عن إرغام أجهزة الأمن لها على الاعتراف بعد تهديدها بالاغتصاب والقتل، طبعاً الاغتصاب بالنسبة لفتاة شرقية أصعب من الموت. وأعتقد أنه كذلك بالنسبة لمعظم النساء.
نحن في الإذاعة كنا نبث كل التسجيلات بالصوت، وكنا نعيدها عشرات المرات. وأعترف أني كنت استمع الى بعضها حين اضطر الى ذلك عند إذاعتها(..).
0 التعليقات :
إرسال تعليق