الدارجة
في فضاءات الفصحى قراءة في ديوان الشاعر أحمد المسيح أنا(ما كاينش)
محمد
العمري خاص بالمجلة
تبدو
هذه العبارة (أنا ماكاينش) عبثيةً، بدون معنى، لأن "المتكلم" يحتاج إلى
أن يوجد لكي يَعرف، أو يدرك، أنه موجود أو غير موجود.
ولكنها
عبارة سائغة مستعملة، بل بليغة متعددة الدلالات، وإلا ما كان شاعر زجال ذو موهبة
وممارسة، مثل أحمد المسيح، اختارها عنوانا لديوانه الأخير الذي شرفني منذ شهور
بإهداء نسخة منه، على هامش مهرجان تاماوايت بورزازات (يونيو 2013). وهو، في الوقت
نفسه عنوان "أُمِّ ديوانه"، أي القصيدة المستوعبة لروح الديوان. تمتعت
بقراءته بمتعة خاصة عدة مرات.
هناك
أربعةُ مَعانٍ بلاغية ممكنة لـ"تصحيح" تلك العبارة العبثية، تمتد من
أعماق الدارجة إلى قمم الفصحى، المعنى الرابع هو جوهرها ومدارها في هذا المقام:
1)
المعنى الأول: "أنا ما كاينش" تساوي "لا أريد استقبالَ أحد".
يقولها ربُّ البيت أو المدير، أو من في موقعهما، لمن ينوب عنه في استقال النداءات
الموجهة إليه. وهي نفسها العبارة التي عوَّضَها الموظفون المغاربة بعبارة: المدير "في
اجتماع". وأحيانا يكتفي الموظف المسؤول بتعليق بذلةٍ احتياطيةٍ على الكرسي
وترك باب المكتب مفتوحا ليتأكد صاحب الحاجة نفسُه أن المدير في اجتماع، أي ما كانش.
وقد ورد هذا المعى عابراً في أم الديوان حيث قال:
يمكن
قُلْتْ لِيَ:
إيلا
دق شي حد قل له أنا ما كاينش
ومشيت
مني .. باش ما نبقى كاين
كم
هي رائعة وعميقة عبارة "مشيت مني"، أي غادرتني! هذا المعنى ليس مما
يستوعبه المتلقي العادي للدارجة، لأنه ليس دارجا، فمتلقي الدارجة منسجم مع نفسه،
لا تتشظى ذاته ولا تنفصم عُراها، كما انفصمت ذات الشاعر مطران خليل مطران في
"المساء" حيث انفصلت الروح عن الجسد.
2)
المعنى الثاني: "أنا ما كاينش"، أي "لا اعتبار لي". وكثيرا ما
يأتي في شكل سؤال إنكاري: لماذا تقررون في غيابي؟! هل أنا غير موجود؟! "أنا
ما كاينش؟!". يقولها شريك في مسؤولية حين يلاحظ أن شركاءه لم يأخذوه بعين
الاعتبار: قضوا في الأمور دون أخذ رأيه. هذا المعنى موجود أيضا في متن "أُمِّ
الديوان" بشكل مفصل:
كل
واحد راسم لي قناع
راسم
لي صورة كيف بغا هُوَ
أنا
ما كاينش
جماعة
محياني
جماعة
بالعاني
جماعة
فيها مذوباني
جماعة
سكناني
جماعة
بغات تكوني
في
مثل هذا السياق الذي وصفه الشاعر يأتي سؤال إنكاري: واش أنا ماينش؟! قتلتوني؟!
جاء
في نفح الطيب: "سمع أعرابي اختلاف المتكلمين بمسجد البصرة في الإنسان وانتزاع
كل واحد منهم الحجة على رأيه، فخرج
وهو يقول:
إن
كنتُ أدري فعَلى بَدَنَهْ * من كثرة التخليط فيَ من أنَـهْ"
ومعناه:
لكثرة ما خلط في هؤلاء المتكلمون فإني لم أعُـد أعرف من أنا (أنه)، وإن وقع أن
علمت من أنا فلكم علي بدنة. والبَدَنَةُ: ناققة أو بقرة تنحر هديا، جمعها: بُدْن،
وبُدُن.
3)
وهناك صيغة مماثلة تدل على اللامبالاة: أنا ماشي هنا! وتكون رد فعل على الحالات
الأخرى، ولكن الشاعر اختار "خرجة" أخرى كما سنرى (الخرجة هي البيت الأخير
من الموشح).
4)
أنا ماكاينش!: لا أدري من أنا!
المعاني
الثلاثة السابقة تنتمي إلى عالم الدارجة وفضاءاتها (عدا الاستثناء التفصيلي
المذكور هناك الخاص بشطر: "مشيت مني")، وبالمعنى الرابع تقتحم الدارجة حمى
الفصحى ومجال حظوتها، وتمتحن أقوى حجج وجودها واستمرارها، أقصد المجال الفلسفي. من
المعروف أن الزجل يقترب مضمونيا من الفصحى في نظم الأمثال والحكم، بل يتفوق عليها
في هذا المجال، لارتباط صوره وأمثلته بالمعاش. وهذا هو السقف الذي وصله أشهر زجالي
المغرب عبد الرحمن المجدوب الذي قال، وكأنه يعيش معنا في العقد الأول من القرن21:
تخلطات ولا بغات تصفا
والعبْ خزها فوق ماءها
رياس على غير مرتبا
هما سباب خلاهــــا
وقال:
الأرض فدان ربي
والخلق مجموع فيها
عزرايل حصاد فريد
مطامرو فْـ كل جيها
كما
قال، و"كأنه لا يعيش معنا"، "ولا دايرنا فبالو":
سوق النسا سوق مطيار
يا الداخلو دير بالك
إوروك من الربح قنطار
أو ياخذو راسمالك
ديوان
"أنا ما كاينش" يتجاوز هذا السقف القائم على الخبرة الحياتية ليلامس سقف
الأسئلة الوجودية التي خاض فيها الشاعر الرومانسي إيليا أبو ماضي في الشطر الأول
من رائعته: أنا من أنا؟:
أَنا مَن أَنا يا تُرى في الوُجودِ وَما هُوَ شَأني وَما مَوضِعي
أَنا قَطرَةٌ لَمَعَت في
الضُحى قَليلاً عَلى ضَفَّةِ المَشرَعِ
سَيَأتي عَلَيها المَساءُ فَتَغدو كَأَن لَم تَرَقرَق وَلم تَلمَعِ
أَنا نَغمَةٌ وَقَّعَتها
الحَيـــاةُ لِمَن قَد يَعي وَلِمن لا
يَعي
سَيَمشي عَلَيها السُكوتُ فَتُمسي كَأَن لَم تَمُرَّ عَلى مَسْمَعِ
أَنا شَبَحٌ راكِضٌ مُسرِعٌ مَعَ الزَمَنِ الراكِضِ المُسْرِعِ
سَيُرخى عَلَيهِ السِتارُ وَيخفى كَأَن لم يَجِدَّ وَلَم يَهطَعِ
أَنا مَوجَةٌ دَفَعَتها
الحَياةُ إِلى أَوسَعٍ فَإِلى أَوسَعِ
سَتَنحَلُّ في الشَطِّ عَمّا قَليلٍ كَأَن لَم تَدَفَّع وَلَم تُدفَعِ
ومعنى
ذلك أنه إذا كان "الشاعر" مجرد قطرة يبخرها المساء، أو نغمة يُلاشيها
السكون، أو شبح يحجبه الستار (والموت ستار)، أو موجة يُبددها الشاطئ، فهو غير
موجود، أي "ما كاينش"! هكذا سار المقطع الأول من قصيدة إيليا أبي ماضي
في دوريةٍ من كتابة ومحو: بيتٌ يكتبُ وبيتٌ يمحو، ما تخطه اليمنى تمحوه اليسرى،
وبذلك يتحول السؤال: من أنا، إلى اندهاش
أمام العدم: هل صحيح "أنا ما كاينش"؟!
بعد
هذا المقطع الوجودي حاول أبو ماضي مصالحة الوجود كعادته معانقا أبناء وطنه في إطار
من التفاؤل المفتعل الذي "شاب" رومانسيته، أما أحمد المسيح فقد استمر في
تقليب أسئلة التلاشي وصوره إلى الشطر
الأخير، حيث التفت وهو "يودع القاعة":
بلا بكم ... أنا ... ما كاينش.
وقراءتي
الخاصة لا تجد لهذا الشطر مكانا في غمرة السؤال الوجودي، وإنما هو من
"أكسيسوارات" الإلقاء والمهرجانات، ولذلك قلت: "وهو يودع
القاعة".
الديوان
يسلك الطريق المعاكس لإثبات الوجود: التفتيت. يفتت الذات، بل يُذرِّرها، حتى تصبح
حاضرة في كل الذرات الشاردة، وحاضرة في كل اللقطات العابرة والتجاويف العميقة، أي
حتى تصبح أكثر وجودا من الوجود نفسه، مثل قطرة الماء التي تتبخر لتصير أنهارا
وبحارا. تأمل هذه المقاطع وتمتع بالسحر الحلال:
يمكن
أنا حلمة
حْلَم
باها شي حد..وطاحت فـ الما
يمكن
شي حاجة
تخيلها
شي حد،
يمكن
ظل سحابة
يمكن
مويْهَة وتبخرت
يمكن
متبوع ــ هربان
وتخبِّيتْ
في كناش الإحصاء.
يمكن
كنت والو
واعطاوني
سمية
يمكن
نكون "بوغطاط" "لشي واحد"
وأنا باقي ما كاين.
يمكن
كنت حرف على الورقة
...
وتمحيت
يمكن
كنت سطر محرّز
ولما
عرفو سري ما بقيتش كاين
...........
...........
إلى
أن يقول:
أنا
كثير بالزاف... هي ما كاينش
يمكن
قلت ليَ:
إيلا
دق شي حد قل لو أنا ما كاين
ومشيت
مني.. باش ما نبقى كاين
............
...........
كل
واحد مفصل لي قناع
راسم
لي صفة كِ بغى هُـوَ
[...]
......
أنا
وَاقيلَ ما كاينش
أنال
نيت ما كاينش
[...]
0 التعليقات :
إرسال تعليق