نقدم لقراء العربية ترجمة لكتاب جديد حول السرد
الروائي، "اعترافات روائي ناشئ"، للسميائي والروائي الإيطالي أومبيرتو إيكو،
الصادر في طبعته الأولى بالإنجليزية سنة 2011، عن مطبوعات جامعة هارفارد، والمترجم
بعد ذلك إلى اللغة الفرنسية، في طبعة صادرة عن دار غراسي بداية شهر مارس 2013.
والكتاب، كما يحيل على ذلك عنوانه، ليس تنظيرا للسرد
أو تفصيلا للقول في مكونات النص وآلياته في التوليد والتأويل؛ فهو لا يحدثنا عن حقائق
المفاهيم، ولا يقول أي شيء عن "خطاطات"مسبقة يعتبرها النقاد وسيلة مثلى لقياس
"كمية" المعنى وتحديد سبل انتشاره في تفاصيل القصة؛ إنه بوح، أي اعتراف بما
كان من الممكن أن يظل سرا إلى الأبد، ما يسميه إيكو في هذا السياق، وفي سياقات سابقة[1]،
حكايات السيرورة: "سيرورة التكون" و"سيرورة البناء" و"سيرورة
التفكير بالأصابع"، و"سيرورة التشخيص"، بل يتحدث أحيانا عن السيرورة
التي تنتقل من خلالها أجزاء من حياة المؤلف إلى عوالم التخييل بوحي أو في غفلة منه.
ذلك أن الفن هو في المقام الأول "تشخيص"،
أي عودة إلى "الحسي" والإمساك بطاقاته خاما، كما يمكن أن يصدر عن نفس أمارة
بالحسن وبالسوء، أو هو "فكر حدسي" (كروتشيه) يصدر عن "ذات عارفة"
تروم "تقليص الفجوة الفاصلة بين المعرفة والحس" (كريماص). وضمن هذا وذاك
ليس هناك أفضل من السرد سبيلا للعودة بالمفهومي إلى أصله الأول، أداة للمحتمل، أي أداة
لرفع حالات التجريد وصب الفعل ضمن ممكنات زمنية لا يمكن أن تُرى إلا من خلال ما يؤثثها
من وقائع وأحداث. فنحن من غابر الأزمان نحكي، ولا نفعل ذلك من أجل استعادة ما فات،
بل رغبة منا في فهم ما حدث أو ما يمكن أن يحدث، أو نفعل ذلك فقط من أجل الاستمتاع بحالات
لا تحكمها قوانين العالم الواقعي.
وتلك مناطق لا تقع تحت سلطان "الخطاطات"،
ولا يدرك مضمونها "الفاهم" (بالمفهوم الهرموسي للكلمة). فنحن لا نرى من سيرورات
الإبداع الفني سوى قطعة الثلج التي تطفو على السطح، أما سره الكلي فمودع في ما يسمى
الموهبة، أو القدرة الخلاقة على التقاط ما لا يمكن للعين العادية أن تراه من خلال ما
تفرزه حيثيات الزمن والفضاء، أو ما تستثيره الطاقات الوجدانية المتنوعة. لذلك، فإن
الخبرة التي يتحدث عنها إيكو في هذا الكتاب أعمق وأوسع مدى من كل ما يمكن أن تقوله
النظريات أو تبشر به المفاهيم المجردة.
إن الإبداع هو الأصل، أما النظرية فتأمل لاحق، الفن
تفجير للطاقات الانفعالية وإمساك بالروح التي تسكن الأشياء والكائنات وتتحكم في مصائرها،
أو هو محاولة للبحث عن الانسجام والوحدة في المتنافر والمتعدد والعمائي، ما يمكن أن
يوجد في الخلف من الذاكرة المرئية للوجود؛ ولا تقوم النظرية، ضمن هذا الفيض الانفعالي،
إلا بما يعمم ويجرد ويسقط الممكن من حالات التأمل. لذلك لا نمسك من خلالها بالفردي
في الإبداع، بل نشتق منه قواعد قد تكون هي أصل الفرضيات التي تعتمدها الذات المؤولة
من أجل قول شيء أو أشياء عن النص. إن النظرية لا تساوي بين كل التجارب، ولا تصنفها
ضمن المرتبة نفسها، إنها تمسك، من خلال التأمل التجريدي، بالمشترك بينها.
وهو ما يعني أن النص حقيقة في العين التي تراه وتفك
رموزه وتبحث في ثناياه عن معان أرادها المؤلف أو تسربت إلى القصة بحكم سلطان الموسوعة،
أو بحكم قدرة الأشياء على التسلل إلى النص في انفصال عن مقاصد الباث ونواياه الصريحة،
ولكنه حالة وجدانية تُبنى ضمن إكراهات الموسوعة وضمن مقتضيات العوالم الممكنة أيضا.
يتعلق الأمر بتداخل بين ما يأتي من الخبرة الجماعية والفردية على حد سواء، وبين ما
تمليه أسنن الجماليات وقواعد الفن، وما يتحكم فيه المتاح المعرفي السائد في مرحلة ما،
في الوقت ذاته.
وقد اختار إيكو أن يكشف لنا عن بعض من هذا
"السر". فعل ذلك وهو يتحدث عن آليات الكتابة الروائية مجسدة في ما يسميه
"الإكراهات"، تلك "القيود الطوعية" التي تجعل الفن موهبة وجهدا
وخلقا ضمن عالم ممكن. فالفنان، في كل الميادين، لا يمكن أن يبدع دون أن يحيط نفسه بقيود
هي الضمانة على انسجام ما ينتج، وهي الوسيلة التي تُمَكنه من الانزياح عن الموسوعة
والفعل فيها من خلال خلق عوالم تتحرك على هوامشها، ولكنها لا يمكن أن توجد إلا ضمن
ما يمكن أن تبيحه هي ذاتها.
فيكفي أن تختار لحظة زمنية لكي تجد نفسك منساقا
نحو مسار سردي لا يمكنك الحيد عنه، ويكفي أن تحدد فضاءً يكون بؤرة الأحداث لتجد نفسك
مضطرا للحديث عن أشياء وتجاهل أخرى، بل يكفي أن تختار اسم شخصية ما لكي تجد نفسك أمام
إكراهات لا حول للفردي إزاءها، ولا حول له أمام ما تثيره من قضايا لا يمكن إدراكها
إلا من خلال استعادة السجل الثقافي القادر على استيعاب الدلالات الإيحائية للتسمية
وتعيين الأشياء والكائنات في العالم.
إن الشخصيات في التخييل، ليست كيانات فارغة من كل
تحديد، كما يؤكد ذلك إيكو، إن سلطانها أقوى من كل الحقائق التي نلتقط بقاياها في الفعل
ورد الفعل. فلا أحد يشكك في أن " انَّا كارنينا انتحرت بأن ألقت بنفسها تحت عجلات
القطار"، ولكن الكثيرين ما زالوا "يشككون في موت هتلر منتحرا في مخبأ أرضي".
لذلك قد يغير المؤرخ من إثباتاته إذا استدعى البحث ذلك، ولكنْ لا أحد يستطيع تغيير
ما يبدعه التخييل السردي. إن حقائق الأدب هي غير حقائق التاريخ، لذلك فالشخصية التخييلية
أطول عمرا من كائنات الحياة الواقعية. إن" المؤرخين يكتفون بالحديث عن أشباح،
أما الروائيون فيخلقون أشخاصا من لحم وعظم"، على حد تعبير أليكساندر دوما.
بل هناك ما هو أكثر من ذلك، لقد أصبح الكثير من
هذه الشخصيات جزءا من آليات تقويم الفعل الواقعي، لقد تحولت إلى نموذج للذم أو نموذج
للاقتداء، أو نموذج لتفسير جزء من السلوك الإنساني ( عقدة أوديب، وغيرة هاملت، وجشع
البخيل...). ويكفي أن نذكر بأن "خمس الأطفال البريطانيين ينظرون، حسب ما يقوله
بحث ميداني، إلى شارلوك هولمز والدكتور واتسون باعتبارهما شخصيتين واقعيتين، في حين
يصنفون تشيرشيل ضمن شخصيات التخييل".
بل هناك ما هو أعمق من ذلك، لقد كان إدمون دانتيس
الشهير بالكونت دو مونتكريستو، وهو شخصية تخييلية من ابتكار أليكساندر دوما الأب، أقوى
في الوجود من الثائر والكاتب الفرنسي ميرابو. لقد كان الزائرون لقصر إيف في مارسيليا
يحرصون على رؤية "زنزانة" سجين لم يوجد أبدا (مونتي كريستو)، ولكنهم لا يكترثون
لمحكوم حقيقي بالإعدام ( لقد كان ميرابو مسجونا فعلا في قصر إيف). ولهذا السبب، سيظل
عنترة العبسي حيا في حكايات التخييل، أكثر مما هي عليه الكثير من شخصيات حقيقية مازالت
ترقد منسية في وثائق التاريخ.
وهذا تأكيد آخر أن استيهامات التخييل أقوى من حقائق
الواقع. فنحن قد نبكي بحرقة على مصير انَّا كارنينا، وننتظر بلهفة ما ستفعله الأيام
بغوادالوبي وألفريدو، ولكننا لا نكترث كثيرا لمصير الآلاف من الأطفال الذين يعانون
من المجاعة في إفريقيا، ولا نذرف دمعة واحدة على آخرين تقتلهم الحرب يوميا في الكثير
من بقاع العالم. إن لشخصيات التخييل وضع خاص، فهي ليست "أشباحا، كما هي شخصيات
التاريخ"، لذلك لا تتمتع بـ"سجلات مدنية" مضبوطة، إنها موجودة في وجدان
الناس، لا في أرشيف البلديات.
وهو ما يعني أن الرواية هي "بناء عالم"
في المقام الأول، إنها بحث عما يقود إلى اقتطاع جزئية زمنية وتضمينها أحداثا تخلق قصة،
أي صياغة حدود عالم معقول يتمتع بوحدة وانسجام يألفه القارئ الفعلي، ويقبله المحتمل
التأويلي وتجيزه الموسوعة أيضا. وهو أمر تفسره طبيعة "العوالم الممكنة"،
فهذه العوالم ليست انزياحا عن عالم واقعي لا راد لقضاء الأشياء فيه، إنها مبنية وفق
قوانين الواقع ذاته، ولكنها لا يمكن أن توجد إلا على هوامشه، ما يمكن أن ينبعث من لاوعي
قد يبدو فرديا في الظاهر من النص، ولكنه جماعي في الحقيقة الفنية.
ومع ذلك، فالكتاب لا يقدم وصفة جاهزة، ولا يعلم
الناس كيف يكتبون الروايات، إنه يحكي قصة تجربة، قد تكون شبيهة بالكثير من التجارب
الفنية الأخرى، وقد تكون أقل أو أعمق منها، ولكنها في جميع الحالات تجربة يمكن أن نفهم
من خلالها كيف يأتي المعنى إلى عوالم هي من صلب التخييل، دلالة على أننا نعيش جزءا
كبيرا من حياتنا ضمن الاستيهامات، رغم كل الحجج البعدية التي نقدمها تبريرا لهذا السلوك
أو ذاك.
---------------------
[1] - انظر على سبيل المثال: أومبيرتو إيكو آليات
الكتابة السردية: ترجمة سعيد بنكراد، دار الحوار ، سوريا ، 2009، ست جولات في غابة
السرد، ترجمة سعيد بنكراد، المركز الثقافي العربي، 2005.
0 التعليقات :
إرسال تعليق