ريتشارد فاغنر في ذكرى مئويته الثانية الفنان الشامل الذي حطم القوالب الموسيقية
والمسرحية التقليدية
رغم انشغال العالم كله تقريباً بالأحداث السياسية،
والأزمات الاقتصادية وغيرها، والحراك على شتى المستويات، هنا وهناك في انحاء عديدة
من اوروبا بشكل غير مسبوق، خاصة بالنسبة للأزمة في سوريا، إلا ان كل هذا لم يمنع الجهات
المعنية والمهتمين، من الاحتفال الخاص هذا العام، بالمئوية الثانية لولادة رائد الرومنسية
الموسيقي الألماني ريتشارد فاغنر.
عاشق بيتهوفن وشوبنهاور، الثائر الذي تبنى فكرة
"التحرير" وقدمها في اعماله الأولى، لكنه ما لبث ان تخلى عنها في اعماله
اللاحقة التي ظهرت فيها علامات خيبة الامل، نتيجة احداث 1848، حيث كان في وسط الأزمة
الأيديولوجية التي تخبطت فيها البرجوازية الألمانية خلال النصف الثاني من القرن التاسع
عشر، اذ شعر بضرورة التفكير بطريقة منهجية حول موضوع الفن . فاغنر الفتى الذي نشأ في
كنف المسرح فأحب عالمه السحري الذي يجعله بعيداً من عالمه الحقيقي، وفي الوقت نفسه
نبذه، لان الممثل حسب رؤيته ليس اكثر من صاحب مهنة. ثم بات الشاب الذي ثار على القواعد
الأكاديمية في الجامعة. وكتب مسرحيات جمع فيها التأثيرات الأدبية لشكسبير والأدباء
الذين كشفوا في نصوصهم عن روحهم الثورية.
وفي مدينة بايروث بالذات، التي عاش فيها فترة طويلة،
وأسس فيها داراً خاصة لعرض أعماله، وعندما افتتح المسرح كان العمل الوحيد الآخر الذي
قدم فيه من غير أعماله "السمفونية التاسعة" لبيتهوفن، وما يزال المسرح حتى
اليوم يعرض مؤلفات فاغنر حصراً، حيث يقام مهرجان سنوي احتفاءً به، وفي هذا العام كان
المهرجان بحلة مألوفة، رغم انه يوافق ذكرى تمَام القرن الثاني لميلاد الموسيقار فاغنَر.
المهرجان الذي استمر حتى اواخر آب الماضي، قدم برنامجاً ثقافياً تضمن قراءات لاعمال
ادبيه ومعارض فنيه وجولات تعريفيه، بالاضافه الى مسابقة للافلام القصيره تحت شعار:
"سنه حلوة يا فاغنَر".
اليوم نستعيد سيرة ريتشارد فاغنر، نقتفي آثاره منذ
ولادته وحتى وفاته، نزيح الستار عن جوانب من حياته الاجتماعية والسياسية والعاطفية،
والأهم: الفنية، وما تركه من أعمال متنوعة، رغم انه لم يقدم سوى سمفونية يتيمة خلال
مسيرته.
[ بدايات عادية
يعترف ريتشارد فاغنر بأنه لم يمتلك خصائص الطفل
المعجزة كما هي حال "موزارت" مثلاً، وذلك لكي يوضح للجميع بأنه صنع نفسه
واسمه وفنه بكفاحه الشخصي والمحن التي مر بها. عاش طفولة سعيدة بين والدين كرسا حياتهما
للفنون والمسرح ولم يكن بحاجة الى طموحات اجتماعية أو مالية.
لم يشعر بوطأة وفاة والده في العام الذي ولد فيه
فاغنر تحديداً، اذ ان والدته تزوجت من لويس غيير الذي كان رساماً وممثلاً ومؤلفاً للمسرحيات
ورباه كوالد حقيقي، منحه الحب العميق والرعاية الاستثنائية ولم يعرف فاغنر سوى غيير
والداً له. وكل ما قام به قبل بلوغه الخامسة والعشرين، حين اعجب بأعمال ويبر وموزارت
ومن ثم بيتهوفن الذي كشف له شخصيته الحقيقة، لم يكن سوى ارهاصات وبداية الطريق.
ذكر ريتشارد فاغنر في كتابه "زيارة الى بيتهوفن"،
انه عام 1828، وكان في الخامسة عشرة، حين سمع افتتاحية بيتهوفن لأوبرا "Egmont" قال: "كان قلبي يدق بعنف ويقول لي: ها هو بيتهوفن امامك، تأملت بحماس
لا يمكن وصفه، الرجل الذي كان يسيطر على أفكاري ومشاعري منذ ان تعلمت كيف أشعر وكيف
أفكر".
تأثر فاغنر الطفل بمسيرة غيير الذي كان يصطحبه معه
الى المسرح، فأظهر ميلاً كبيراً نحو هذا العالم الساحر، وفي اوقات الفراغ كان يراقب
شقيقتيه لويز وروزالي اثناء قيامهما بأدوار مسرحية، بينما كانت شقيقته كلارا تغني حيث
كان غيير يشجع اولاده على ممارسة النشاطات المسرحية في المنزل. ثم قام فاغنر بدور في
مسرحية مدرسية واظهر حماساً في الاداء. وفي مذكراته، أشار الى ميله الشديد نحو المسرح
وقال: "كان المسرح يمارس سلطة عظيمة على خيالي. لم ادخل المسرح كطفل مشاهد، بل
دخلت اليه كممثل".
توفي غيير قبل ان يكتشف مواهب الصغير ريتشارد الموسيقية،
وترك وراءه عدداً كبيراً من الدمى التي كان يستخدمها في تقديم حفلات مسرح العرائس،
فاهتم ريتشارد بها وصار يعد مسرحيات خصيصاً لها في المنزل. أحب المسرح ولم يدر بخلده
يوماً انه سيصبح مؤلفاً موسيقياً. ويقول في احدى رسائله لصديق: "كنت اجد متعة
كبيرة في الاشراف على المسرحيات التي كنت اقدمها في غرفتي في المنزل، واجد تشجيعاً
كبيراً من والدتي لحبها الشديد للمسرح. مع ذلك كنت أكره الذهاب الى المسرح، وربما كانت
الانطباعات التي تركتها في نفسي الأساطير الكلاسيكية، ولدت في نفسي احتقاراً بل كره
ملحوظ لحياة الممثل الذي يؤدي دوراً على المسرح يتناقض تماماً مع واقع حياته خارج المسرح...".
لذلك لم يرغب في ان يصبح ممثلاً، لكن حبه للثقافة
الادبية ربما جعله يفكر في أن يصبح شاعراً، فكتب مسرحيات حملت الكثير من تأثيرات شكسبير
وادباء اخرين. وحين اختارته الموسيقى، كانت سمفونيات بيتهوفن هي التي دفعته ليلبي نداءها،
فاتجه نحو الموسيقى في عناد يفوق طاقة الإنسان، وتعلم التأليف الموسيقي من خلال نسخ
وإعادة نسخ السمفونيات واستخدمها كنموذج ونقطة انطلاق، وتمكن من ترويضها وجعلها وسيلة
للتعبير عن نبوغه.
[ بيتهوفن
عندما بدأ فاغنر تأليف موسيقاه، كانت سمفونيات بيتهوفن
مصدر الوحي الأول، في كتابة افكاره المسرحية. ذكر انه تأثر بمقطوعة "Pastorale" (المغناة الرعوية) لبيتهوفن، حيث ألف مغناة رعوية استمد موضوعها من قصيدة
"طيش العاشقين" للشاعر غوتيه. وفيما بعد فكر في دمج "السمفونية"
في المسرحية والموسيقى الصرفة في اللغة المسرحية (1829-1830)، والجدير ذكره، انه وضع
ألحاناً تقليدية مثل بعض السوناتات والافتتاحيات وسمفونية وحيدة، في محاولة لاثبات
وجوده كمؤلف موسيقي تقليدي وطالب مجتهد.
كان فاغنر يريد ان يصل الى المجد بأسرع وقت ممكن،
فعندما انخرط في الجامعة عام 1831 ليدرس الموسيقى، تعلم فن الايقاع والطباق في ستة
أشهر. وفي التاسعة عشر من عمره عُرضت افتتاحياته للكونشرتو على مسرح "بايروث"،
وفي العشرين عزفت له اوركسترا Gewand Haus سمفونية Ut Majeur . وفي الوقت نفسه نشر مقالتين في اهم مجلتين فنيتين في ألمانيا حول الفن
المسرحي، وايضاً عين مديراً للموسيقى في دار الأوبرا في مدينة ماغديبورغ.
كان طموح فاغنر الوصول الى المدن الكبيرة، مثل باريس
وتقديم اعماله في دار الأوبرا هناك، وحين أكمل اوبرا "Rienzi"، عاد وعدل اسلوبه وابتعد عن الرتابة المدرسية للموسيقى
الألمانية وتبنى الألحان الإيطالية والفرنسية لكي يرضي مدير دار الأوبرا ماير بيير
في باريس. لكنه بذلك التعديل، اعتبره البعض انه خان وطنه ونبوغه معاً. لقد جعل من الأوبرا
"رينزي"، مسرحية غنائية حقيقية مع موضوع تاريخي وعواطف عنيفة ومشاهد بطولية
كان الجهور الفرنسي يعشق مشاهدتها. لكن فاغنر عبّر في رسالة الى صديق سنة 1851، عن
رغبته في "...تحقيق النجاح مهما تطلب الامر ذلك من تجميل للحقيقة وتبني تنازلات
فنية لإرضاء المشاهدين". إلا أن إقامته في باريس بين عامي 1839 -1842، حملت سلسلة
خيبات متتالية، اذ لم يجد ناشرين يقبلون نشر مقطوعاته ولا مدراء مسارح يوافقون على
عرض اعماله، لذا عرف الفقر والفاقة، مما اضطره الى قبول القيام بأعمال لا تشرف نبوغه
مثل: التوزيع الأوركسترالي لأعمال فنانين مجهولين.
[..والحلم
بعد رحلات عديدة وتنقلات بين روسيا وفيينا/ لم يتمكن
فاغنر من فرض حضوره وتقديم اعماله، فازدادت ديونه، وهرب من الدائنين والفقر وتخلى عن
احلامه وفكر بالانتحار. وهنا تماماً وافاه الحظ، ففي العام 1864 قدم سكرتير لويس الثاني
ملك بافاريا، الى فاغنر ميدالية ذهبية عليها صورة الملك واخبره بأن الملك لديه رغبة
في مساعدته وخدمته. كتب فاغنر رسالة شكر الى الملك مليئة بالعواطف الصادقة واعداً إياه
بأن تكون حياته بأكملها رهناً لإشارته وان كل اعماله الموسيقية اللاحقة ستكون ملكاً
له يتصرف بها كيفما يشاء.
كان الملك لويس الثاني مرهفاً ومعجباً متحمساً لفاغنر
واعماله، ففتح له ابواب قصره واعطاه مفاتيح خزنته ليغرف منها ما يشاء. ومنحه الملك
منزلاً وراتباً سنوياً محترماً في ميونيخ وحقق لفاغنر حلمه في إنشاء "مسرح بايروث".
وبمثابة شكر للملك ألف فاغنر نشيداً وطنياً تحية له. ومنذ ذلك العام بدأت اعمال فاغنر
تعرض في ميونيخ بأمر من الملك. وفي تلك الفترة كتب القصيدة السمفونية "Das Ring"، وأكمل اوبرا "Die Meister
Singer" وألف أوبرا Parsifal".
[أفكار متجددة ثائرة
قدم فاغنر افكاراً جديدة لشكل الأوبرا، كمفهوم وبنية
وترابط الانغام، وتطويرها. ونشر أربعة كتب شرح فيها المخطط الجديد للأوبرات، فأثار
غضب المؤلفين الموسيقيين والجمهور معاً، إلا أن عناد فاغنر كان يزداد بعد كل انتقاد،
وكفاحه يتنامى ضد المؤسسات والتقاليد فابتعد عن الجمهور وانعزل الا عن قلة من الاثرياء
القادرين على دعمه لتحقيق اهدافه.
فكرة الخلاص من خلال الحب، استمدها فاغنر من أساطير
ألمانيا الدينية في أوبراته. مثل "تانهاوزر". وفي اوبرا "Lohnegrin" خلط موضوع التحرر مع التصوف والايمان، كما ان توزيع الشكل الجديد للأوركسترا
برز في هذه الاوبرا ايضا.
كان فاغنر اول من استغل الاتساع في البعد الموسيقي
والمسرحي الذي دعا اليه ويبر، وتطوير نتائجه. ففي البدء زاد عدد أفراد الفرقة الموسيقية،
من خلال زيادة عدد العازفين على الآت النفخ. وكانت تلك اشارة واضحة الى ارادة فاغنر
في العمل ضد مفهوم الاوركسترا التقليدية. وبذلك خضع مفهوم إثراء التكوين الاوركسترالي
في الوقت نفسه لمفهوم إلزامي جديد بقي أحد المبتكرات الاساسية لفاغنر، تحويل الاوركسترا
الى مزيج صوتي لا يمكن لمسه او تحديده ويجد تعزيزه المادي في "الهوة" الصوفية"
لأوركسترا بايروث.
شهدت اعمال فاغنر منذ رباعية "ذهب الراين"
العديد من التطورات فيما يتعلق بعملية بناء مختلفة للاقسام التي تكوّن المشاهد. ووصل
الى ذروة تطوره هذا في اوبرا "تريستان" حيث ان التنوع الكبير في البنية،
ناجم عن الابتكارات التي ادخلها فاغنر في مبادئ إنشاء اللحن والإيقاع وصلت نتائجها
القصوى في "تريستان وايزولد". تحدث فاغنر بنفسه عن الثراء في توافق النغمات
الذي حققه في هذه الاوبرا.
وفي الوقت نفسه اقترح فاغنر عن تصميم، ابتكار ما
أسماه "اللحن اللامتناهي" الذي يستند في كثير من الأحيان الى الاسلوب التقليدي
الذي يتمثل في التتابع، فنجح بذلك في استنباط مصادر جديدة.
عندما فكر في اضافة آلات اخرى الى الاوركسترا، ابتكر
فاغنر، آلة سميت "توبا فاغنر" الشهيرة، التي تجعل جوقة الآلات النافخة أكثر
تماسكاً والتحاماً في الاوبرا. أمر بصنع "التوبا الصادحة" (نوع من البوق
الموسيقي) و"التوبا الجهير" و"التوبا الكونترباص" و"البوق
الجهير". وكانت الزيادة هذه ضرورية نظراً للدور الذي حدده فاغنر للأوركسترا وهو
دور الجوقة القديمة ، ففي اوبرا "ذهب الراين" ضمت الفرقة 125 آلة موسيقية.
ثم نقل فاغنر الأوركسترا من المسرح الى المكان تحت المسرح لكي لا تغطي اصوات الالات
النافخة على الالات الاخرى وعلى اصوات المنشدين.
في بداياته اعتمد فاغنر على إلهامه لابتكار العمل،
ثم في الاربعينات من القرن التاسع عشر تخلى فاغنر عن التاريخ لصالح الاسطورة، ثم تخلى
عن الاسطورة والتاريخ لصالح الخرافة، ليتخلى عن الخرافة لصالح العمل المقدس. كتب في
مذكراته حول هذا الموضوع: "...الخرافة هي القصيدة البدائية للشعب. في الخرافة
تتخلص العلاقات الانسانية تماماً تقريباً من شكلها التقليدي، وتظهر الحياة على حقيقتها
فنفهمها. تكفي اغنية شعبية لكي تعرف اخلاق شعب، وهكذا تؤمن الشخصية الخرافية في العمل
الموسيقي مزية ثمينة للغاية، لان بساطة العمل تسمح بعدم التوقف عند تفسير الاحداث الخارجية
من جهة، كما كما تسمح بتخصيص القسم الأكبر من القصيدة لتطوير اللازمات الداخلية للعمل،
لان هذه اللازمات تثير في اعماق قلوبنا أصداء لذيذة". يمعنى ان الموضوع التاريخي
يجبر المؤلف على اعطاء تفسيرات بعيدة ومضادة للموسيقى، في حين يشجع الموضوع الخرافي
الشعر الغنائي وتعبيره الموسيقي.
وفي كتابه "العمل الفني في المستقبل"،
بحث فاغنر الظروف التي يمكن فيها دمج الشعر والموسيقى والرقص والإيماء والرسم وكافة
فنون التقليد التي تسعى الى إغواء النظر، اي باختصار صهر كافة أشكال الفن الانساني
في بوتقة واحدة، والمسرح من وجهة نظر فاغنر هو المكان السحري الذي يمكن فيه تحقيق هذا
الصهر بتناسق بحيث يطلق المشهد المسرحي في داخلنا كل الطاقات اللاواعية".
[ عشق كوزيما
في الفترة نفسها، تعرف فاغنر الى كوزيما ابنة المؤلف
الموسيقي ليست. أحبت فاغنر وقامت بتعريفه الى الطبقة الأرستقراطية الأوروبية. ارتبطت
بفاغنر، وولدت ابنة أطلق عليها اسم ايزولد، تيمناً بالأوبرا "Tristan Et Isolode". وابنة ثانية اطلق عليها اسم إيفا تيمناً باسم بطلة اوبرا Die Meister Singer التي عرضت في ميونيخ ، وولدت له ابناً أسماه فاغنر وألف له قصيدته السمفونية
الشهيرة
Siegfried Idyll".
قالوا في فاغنر
[ برليوز
كان الموسيقي الفرنسي برليوز، الوحيد الذي استطاع
فهم موسيقى فاغنر. تمكن من فهم عناصر موسيقاه ولكنه لم يحب فاغنر بالذات، رغم ان الاخير
وجد في برليوز الموسيقي الرومنسي الممتاز، وكان برليوز نفسه مكروهاً من قبل البرجوازيين
في فرنسا، كونه مكافحاً ومنعزلاً، لذا وجد ان فاغنر فنان يكافح من اجل اكتساح باريس
ولهذه الغاية يحاول كتابة اوبرات تستجيب لذوق الفرنسيين.
وفي الوقت نفسه، تمكن فاغنر من فهم الابتكارات الأوركسترالية
لبرليوز، حيث نقل بعض التأثيرات اللحنية والتركيبات الجريئة من مقطوعة برليوز
"السمفونية العظيمة". لكن الأمور اتخذت منحى آخر بين برليوز وفاغنر بعد ان
اقام الاخير حفلات على المسرح الايطالي في العام 1860، اذ بدأ برليوز بمهاجمة فاغنر
في مقالات عدة في مجلات وصحف. وفي احدى مقالاته، كتب برليوز بأنه قرأ وأعاد قراءة مقدمة
اوبرا "تريستان": "...لقد سمعتها برغبة عميقة في اكتشاف المعنى فيها.
يجب ان اصرح الآن بأنه لم يتكون لدي أدنى فكرة عما كان المؤلف يريد ان يقول. ثم استرسل
في مهاجمتها ذاكراً ما احتوته من عدم تناسق بين الأنغام، والتلوين المفرط، وكثرة النغمات
الزخرفية غير الضرورية".
رد فاغنر على اراء برليوز في رسالة مفتوحة الى المجلة
نفسها التي نشرت مقالته، تحت عنوان: "موسيقى المستقبل"، فسر فيها بأنه في
المستقبل لن تكون الموسيقى فقط في قفص الاتهام، بل العمل الموسيقي بالذات، بفضل صهر
كافة الفنون وسيتم تفسير الفن الإيمائي الذي يكمله الشعر والموسيقى والتجميل".
وبعد فشل أوبرا "تان هوزر"، عندما عرضت
في دار الأوبرا عام 1861، غمر فاغنر الضجر، في حين امتنع برليوز عن التعليق حول فشلها،
لكنه تحدث في رسالة الى ابنه لويس عن "فاغنر المسكين الذي وصفه المشاهدون بالسخيف
والفاجر والأبله".
[ نيتشه
قال نيتشه لاحد اصدقائه عندما سمع موسيقى فاغنر:
"لا استطيع ان أنتقد هذه الموسيقى وأنا بكامل عقلي. انها تحرك كل وتر وكل عصب
في جسمي. شعرت بأني أطير على أجنحة سحرية عندما سمعت الافتتاحية الاخيرة". وعندما
قابل فاغنر اعتقد أنه يعيش في حلم. ذكر في احدى رسائله، انه وجد نفسه امام فنان متفوق
وامام رجل خلاق يطفح بالحيوية والنشاط وأمام ساحر عملاق. غمره حلم اعادة الحياة الى
الثقافة الألمانية واعادة الحياة الى حلم غوتيه وهولدر لين وشوبنهاور. وفي رسالة اخرى
اعتبر بأنه دليله ومرشده والنجم الذي يهتدي بنوره".
كتب نيتشه كتاباً بعنوان "فاغنر في بايروث"،
وعندما قرأ فاغنر ما كتبه نيتشه من مديح وإطراء لا حدود لهما، كتب رسالة الى نيتشه
يقول فيها: "لقد أعدت قراءة صفحات كتابك الشيق. أقسم بالله بأني أعتبرك الرجل
الوحيد الذي يعرف ما أريد. قلت لكوزيما إني وضعتك في قلبي مباشرة بعدها وان لا احد
سوف يحتل هذا المكان غيرك". لكن هذه المحبة لم تدم، اذ لاحظ نيتشه ان فاغنر يتأرجح
بين تشاؤم شوبنهاور والبوذية والمسيحية فانفصل عنه. لقد ادرك حينئذٍ أن فاغنر لن يتمكن
من مساعدته في إعادة التفاؤل الحديث الأرستقراطي الذي يتجاوز الخير والشر، الذي أراد
أن يخلقه، فجعل "زاراتوسترا" يبشر باسمه.
وأكمل نيتشه الجزء الأول من كتابه "زاراتوسترا"
في الساعة التي أسلم فيها فاغنر الروح في البندقية.
ومع ذلك قال في احدى رسائله: "لا شيء يمكن
ان يعوضني عن فقد عطف فاغنر علي. أحلم غالباً به وأستعيد في الحلم مراحل صداقتنا الماضية".
يقول نيتشه عن صداقته مع فاغنر: " صداقة بين
نجمين. اصبح واحدنا غريباً غن الآخر. ولكن هذا لم يمنعنا من عدم التحدث عن ذلك ولا
ان نخفي مشاعرنا المتبادلة. نحن سفينتان، لكل سفينة هدفها وطريقها المرسوم. ولكن القوة
القاهرة لمهمتنا أبعدتنا عن بعضنا البعض ودفعت بنا الى بحار مختلفة وتحت أشعة شمس مختلفة،
وربما لن نلتقي مجدداً أبدأً، ولكن قد يكون هناك منحنى ضخم غير مرئي او طريق عبر النجوم
حيث توجد سبلنا وأهدافنا المختلفة مسجلة فيها كعلاقات صغيرة تشير الى المراحل. ان حياتنا
قصيرة جداً ونظرنا ضعيف جداً ليمكننا من ان نكون أكثر من صديقين، وهكذا نريد ان نؤمن
بصداقة النجوم حتى ولو كنا مضطرين لأن نكون عدوين على الارض".
كان بين نيتشه وفاغنر نقاط اهتمام مشتركة: تذوق
الثقافة العالمية والحنين الى النهضة الأدبية. تردد الاثنان بين الموسيقى والادب. اراد
فاغنر ان يكون شاعراً واراد نيتشه ان يكون مؤلفاً موسيقياً، فماذا كان مصير الاثنين؟
فاغنر من كبار موسيقى القرن التاسع عشر ونيتشه من أكبر شعراء ومفكري القرن نفسه.
[ مرسيل شنايدر
وصف الأديب والناقد الموسيقي المعروف مرسيل شنايدر،
في كتاب ألفه عن فاغنر، قائلاً: "لم يثر اي فنان في العصور الحديثة مثل هذه الكراهية
وهذا الحب الذين أثارهما فاغنر في عقول الناس ، وذلك من خلال رغبته في خلق نمط جديد
للإحساس، أسس لعقيدة دينية جديدة. قدم نفسه إلينا كشاعر وموسيقي ومفكر وكفنان، يمثل
أحسن تمثيل القرن التاسع عشر، الذي شاركه تعطشه الى الحرية وحبه للروحانية الرمزية
وميله الى كل ما هو ضخم وعظيم وهائل. وفقط الكتب التي تحدثت عن نابليون وعن المسيح
تفوقت من حيث العدد على الكتب التي تحدثت عن فاغنر، ولقد نشر في انحاء العالم وبلغات
عديدة أكثر من 45 ألف كتاب عن سيرة واعمال فاغنر".
وقال ايضاً: كان يغمره الحنين الى الثقافة العالمية
التي تميز بها رجال القرن السادس عشر، حنين دافنشي وعصر النهضة، لفضل الحب العظيم والكريم
للملك لويس الثاني ملك بافاريا لفاغنر تمكن هذا الاخير من تحقيق حلمه العظيم
"مسرح بايروث"، "هذه المغارة العجائبية في وسط أوروبا" كما قال
توماس مان، هذا الحلم الذي يفوق حجم من حلم به، والعمل الأكثر جرأة والأكثر إثارة من
جانب احد الموسيقيين. انه فنان القرن التاسع عشر والمؤلف الموسيقي الذي لا يزال حتى
يومنا الحاضر يثير مشاعرنا ويدفعنا نحو التفكير بمستقبلنا ومستقبل الفن الموسيقي الذي
نهواه.
أخيراً ولادة وحياة حافلة ووفاة
ولد فيلهلم ريتشارد فاغنر في مدينة لايبزغ المانيا
عام 1813. وتوفي في مدينة البندقية بإيطاليا عام 1883. التحق فاغنر بالمعهد الموسيقي
في ليبزغ حيث تلقى تعليمه وفي السابعة عشرة كان بدأ في كتابة الموسيقى. بعد عامين كتب
سمفونيته الوحيدة التي لم يكتب لها الخلود. درس البيانو والنظريات. ومؤلفات أسلافه
ورأى في بيتهوفن مثلاً أعلى. خاصة في سمفونيته التاسعة.
تزوج "مينا بلانر" في 24 تشرين الثاني
من عام 1833. احب كوزيما ابنة ليست وتزوجا بعد سنوات طويلة. في العشرين من عمره تم
تعيينه قائداً لكورس دار الأوبرا بمدينة فيرتزبورغ. اعتنق الأفكار الثورية، فحلت عليه
نقمة أولياء نعمته، واضطر إلى الهرب إلى سويسرا ليستقر بها لفترة من الوقت (1849 -
1861م).
من أعماله
"الساحرات، او الجنيات" 1834. "الحب المحرم". اقتبسها من
مسرحية لشكسبير 1835. السفينة الشبح (1841 م). "رينزي" 1842. تانهُوزِر
(1845 م). لوهينغرين (1850 م). الرباعية الأوبرالية (1852-1876 م). تريستان وإيزولده
(1865 م). الأساتذة الموسيقيون لنورمبرغ (1868 م). "ذهب الراين" 1869.
"فالغيري" 1870. "غروب الالهة" 1876. "سيغفريد"
1876. بارسيفال (1876-1882 م).
سحر طه
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق