أحمد زين الدين
يختزل عنوان كتاب الناقدة خالدة سعيد "فيض المعنى" ـ دار الساقي ـ طريق الوصول إلى مقاربتها للنص الشعري العربي الحديث، ونظرتها إلى قوام المعنى باعتباره نبعاً يفيض بمائه الداخلي. حركة من التحوّلات والتفتّح على الصور والرموز.
وفي مقدمة مستفيضة تحاول خالدة أن تنفض يديها من تبنّي أي منهج نقدي، أو إيثار واحد على آخر، أو وضع مرتكزات لنظرية جديدة. بل هي تمنح عملية القراءة بُعداً أساسياً لتشكيل الذائقة النقدية التي تثري النص المقروء بتدخلها الإيجابي، وإسهامها في إضاءته وتفتيق دلالاته. وخشية ان تغدو القراءة الذوقية الفردية هذه إسقاطاً لحمولات الذات على النص المقروء، تلتمس الكاتبة بعض الأدوات والخبرات النقدية الكاشفة، من دون الاستغراق في فرضياتها ولوازمها وموجباتها. وإن كان لي ان أزعم أنها بلورت "ملامح" رؤية نقدية ما، أو آثرت طريقة على أخرى، فلا يجاوز الأمر جلاءها وظيفة القراءة كنشاط فكري تفاعلي. نشاط سبق منذ السبعينيات، ان سماه الناقد الألماني هانز روبرت ياوس "جماليات التلقي" كامتداد لخط غادمير "الهرمينوطيقي"، وما ابرزه زميله إيزر من دور للقراءة في بناء المعنى. ويقوم هذا الدور على تفهّم النص، ومحاورته، والانحلال فيه، أو تمزيق غلالاته وأقنعته. وعملية النقد لدى الكاتبة مشروع مفتوح غير قابل للانغلاق، بل هو مجازفة ومغامرة لانهائية لكسر مفاتيح النص، وافشاء أسراره، ونبش مكنوناته، وخزائن لاوعيه وهذيانه.
ومع أن الناقدة تستقبل نصوص الشعراء العرب المذكورين في كتابها من خلال حساسيتها، ومن خلال عينها الداخلية. إلا أنها تحرص على أداء عملية القراءة كعملية تفاعلية بين ذات القارئ، وذات الكاتب. وهي لا ترد النص الشعري إلى خلفياته ومرجعياته، إنما تعتبره أفقاً وفضاء داخل بحر اللغة. ولادة متجددة لصوت الذات في العالم، وانبناء في التاريخ. عملية القراءة هذه تدعوها خالدة سعيد "فن القراءة" أي القراءة الإبداعية الموازية لبناء القصيدة وصورها وأحوالها. لذا فإن قصيدة بلا قراءة هي قصيدة نائمة، حسب عبارتها الشاعرية. وكما يمتلك الشاعر قصيدته، كذلك يستولي الناقد على القصيدة نفسها ليجدّد معانيها.
في الكتاب تختبر المؤلفة نصوصاً لشعراء عرب معاصرين من أجيال متفاوتة الأعمار، ومتباينة التجارب، من دون أن تذكر سبباً لوقوفها عند البعض دون الآخر، وان كانت إشارتها إلى ان الكتاب ستتبعه أجزاء، ربما أغنتنا عن فضل السؤال. بيد أن المتابعة لمجمل هذه النصوص الشعرية وطريقة مقاربتها لها، تلقي ظلالاً على هذا الاختيار، الذي نظنّ أنه بُني على موقف مضمَر ومسبق من معيار الشاعرية، والذي يتضح كلما اطردت عملية القراءة، وتعمقت الكاتبة في سياق تفكيك القصائد المعروضة وسبر أغوارها. وإذا كانت المقدمة النظرية للكتاب تضيء بعض جوانب هذا الاختيار، فإن الوقوف الأولي المطوّل عند الشاعر أنسي الحاج، يضعنا في قلب الرؤية التي تتبناها عن الشعر ومعاييره. فهي تنصب بطريقتها الذكية وقدراتها النقدية الكبيرة ديوانه "الرأس المقطوع" العام 1963 ميزاناً لتقييم العمل الشعري العربي الحديث، وعلماً على الريادة والسبق.
تقويض الثوابت
في "الرأس المقطوع" تحتفي الناقدة بأنسي الحاج كرائد من رواد الطليعة الشعرية الذين دعوا إلى إسقاط العاطفية والغنائية والتقاليد الموروثة. وما ميّز شعره هو العنف التصويري، والتقشف النغمي، ومجهولية الذات، وإقلاق الثوابت، وتكسيره هندسة الدلالة، والتأليف بين الأضداد، وبعثرة المتآلف، وانقطاع حبل المعنى، وكسر السياق والتناسب والتواصل. ما يفعله انسي الحاج عموماً في بنائه للقصيدة انه يقدم علاقة التجاور بين الأفكار والكلمات على التسلسل، ويعقد مساراً شبكياً بدل المسار الخيطي. وبهذا يخرج الحاج عن التعبير المدجن والمعقلن، ليندفع نحو كل غريب ومباغت ووحشي.
وظفت خالدة سعيد في قراءتها لديوان "الرأس المقطوع" خبرتها الطويلة في تفكيك النصوص، ومكونات العملية الإبداعية الشعرية، واقتحام المخبوء والمدفون في ثناياها، وجمع المشتت والمتشظي من المعاني والدلالات المحفوفة بها. لكن القارئ "المتواضع" بقدراته وأهليته النقدية، لا يمكنه ان يفك الأحاجي والألغاز التي أحاطت بالديوان الموغل في الالتباس والتغريب، والمتحرر من نظام العالم ليصنع نظامه أو فوضاه.
وتجعل الكاتبة بعد ذلك من قصيدة "البحر" لعباس بيضون محاولة لتقويض اللغة الشعرية المألوفة، وتداخل الأطوار والأزمنة والحالات في مغامرة مجهولة النهاية. وتعقد بين قصيدة بيضون واللوحة التعبيرية صلة وثيقة تتحوّل فيها الكلمات إلى ألوان وأشكال هندسية وضوئية. لكن خالدة سعيد تدهشها "مدافن زجاجية" كقصيدة خراب مؤسلب، وترى فيها عالماً تطغى عليه الآلية، وغياب الذات، وعلامات الحياة. ولما كانت خالدة سعيد تؤثر كل نص يلغي، أو يعدم أي خلفية ايديولوجية لأنها ميكروب يقتل روح الشعر، لذا فإنها لم تحتفل كثيراً بقصيدتي البحر وصور اللتين تلتمعان بوهج ايديولوجي، ومرجعية الواقع الذي يضيء على معذبي الأرض، وتصاغر "الأنا" او احتجابها امام عظمة الجموع الفقيرة من الفلاحين وصانعي النعال، والحطابين، وصبيان الفرانين. وحتى "المدافن" التي أُعجبت بمناخها المعدني البارد، وخلوّها من التفاعل والحياة، كانت في عمقها ذات مرجعية واقعية انسانية، تعود إلى تجربة السجون والمعتقلات.
وفي رصدها الدؤوب لمناخات الحداثة الشعرية ومفرداتها المبثوثة في النصوص المختارة، تعثر في ديوان أمجد ناصر "سُرَّ من رآك" على المتخيل المفتوح على احتمالات الدهشة والمراوغة والظنون، عبر رموز مستقاة من عالم الأساطير والطقوسية والشعائرية. وعبر ما تسمّيه "غموض البوارق والإلماح". أي التصور الضبابي الذي يلوح ويغوي، ويستدرج إلى المجهول والسر المكتوم.
وتكتشف الناقدة لدى زليخة ابو ريشة في "دفتر الرائحة" لغة مجازية متمردة مجنحة، وتقارب العنوان كمفتاح للغة لمّاحة إلى أحوال تصل بين الوجد الصوفي الروحي، والهيام الدنيوي الحسي. وبين العشق البشري والعشق الكوني الإلهي.
وما يجذبها إلى "كتاب صنعاء" لعبد العزيز المقالح هو التداخل بين مدينة صنعاء التاريخية والمدينة الشعرية المؤسطرة والملغزة. فصنعاء بقدر ما هي إرث فني وإنساني، فإنها أفق أخيلة ومعانٍ. وتاريخ صنعاء لا ينفصل عن أرض الحلم. صنعاء المؤنثة التي تأخذ وجه الأم ووجه الحبيبة. في "كتاب صنعاء" يكتب المقالح، كما تقول: السجل الروحي للمدينة، مدينة الذكريات والرموز المتوهجة في الحلم والخيال.
العالم المطعون
وحيث ينكسر العالم كزجاجة، بين يدي وديع سعادة في ديوانه "بسبب غيمة على الأرجح" ويولد الفاجع في شعره. فإنها ترى إلى أن تجربة الحرب والهجرة قد تركت بصماتها على قصائده، إلا أن ديوانه ومناخه الشعري خارج المراثي المألوفة، وتاريخ الحنين وخطاب استعادة الفردوس المفقود الذي ميّز شعراء المهجر من سوريين ولبنانيين. كما يحضر لدى سعادة الموت عارياً مكشوفاً عبثياً، ومجرداً من التمويهات والتسويغات السياسية والإيديولوجية. مملكته هي مملكة الغائب والظل والصمت والإشارة.
ويخرج عبد المنعم رمضان في تصورها على التقاليد الشعرية كاسراً العلاقات المنطقية والسببية وتراتبية الكون ونظامه. وتنزاح الصورة الشعرية في ديوانه "غريب على العائلة" عن سياقها المألوف، وتنفتح على تداعيات الحلم والسينما ويتجاذبها الوعي واللاوعي. وإن كان بعض قصائد رمضان لا تخلو من الإيقاعات الخليلية فإن الكاتبة تدرجها في النبض الداخلي للقصيدة.
وترتكز في مقاربتها لديوان عبده وازن "حياة معطلة" على التناوب بين القول الشعري واستدعاء الصورة الغائبة، حيث الحضور ذريعة للغياب. وتلاحظ في شعره التوازي بين الحالة الشعورية والحالة الفكرية، كما البناء المتناسق وتسلسل الدلالات، لكنها ترى إلى ان الأسئلة المطروحة تفضي دائماً إلى الحيرة وأفق التيه والنهايات الملغزة.
وتصف قصيدة وازن بأنها مرآة مكسورة تشتت صوت المتكلم، وتحيل النص فضاءً لقراءات مفتوحة تقدم مشهداً لذات مغايرة. ذات مكمّمة ومنزاحة عن مركزها أو متخفية.
وتجيء شاعرية حسب الشيخ جعفر من إيقاع التحوّل ومفاجآته، ومن تداخل الأزمنة. وفي مجموعته "الطائر الخشبي" لا يطلق الشيخ جعفر موضوعاً، بل إعصار صور، ويحمل الجزئيات اليومية المبتذلة إلى أفق الحركة الكونية الكوكبية، حيث تتواشج العهود والصور، ويندرج الزمن بين الصحو والحلم والهذيان.
وتتعالى في رأي الكاتبة قصائد محمد بنيس في "رهبة الفراغ" عن العواطف الآنية المباشرة، في عالم هو مستودع أسرار وحقل علامات. قصائد تتواشج بالرمز، ويغيب فيها الوظيفي الإخباري المباشر، ليحدث الخرق والتحولات عبر الانزياحات المجازية. الكتابة هنا وجود في وجه العدم والعبث، وحضور يتحدى الفراغ.
وفي ديوان "فصول من سيرتي مع الغيم" تنصت إلى صوت جودت فخر الدين، وهو يناجي نفسه عبر مرايا الطبيعة مصطفياً الغيم كليماً له. مرايا تعكس خواطره، وتبث معانيه، وتضيء دواخله. وصورة الغيم بعدم استقرارها ولطافتها وهشاشتها تفلت من الشكل والتماسك لتستسلم للتحوّلات. وحيث يُسقط عليها الشاعر تصوراته وهواجسه، تنكشف عزلة الشاعر وكآبته، وسعيه إلى التماس ذاته المبعثرة في تعدد ظلالها.
اما شقيقتها الراحلة سنية صالح فتقف عند قصيدتها "جسد المساء" أولى قصائدها التي فاجأت الجميع ودخلت دائرة الشعر من بابه العريض، وتستعيد ما قاله عنها أنسي الحاج عهد ذاك، وما كتبه عباس بيضون. وتصف شعر سنية بأنه عالم معطوب ورؤيا جامحة وأحشاء غاضبة. شعر ينبجس من الجوهر الأنثوي الخالق والمطعون، والقادم من عالم الوجع والصراخ.
والجدير بالتنويه، أن خالدة سعيد تغاضت في مجمل قراءاتها النقدية للنصوص الشعرية، أو كادت، عن ذكر أي مكانة للإيقاع النغمي، وكأنما استبدلت به إيقاعاً آخر للمعاني التي تتخلق عبرها الكائنات والأشياء وتتكاثر، ثم تتشتت وتتحطّم، في عملية توليد وفناء لا متناهيين.